هذه الخطبة العظيمة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، نسبها بعض الجهّال لمعاوية بن أبي سفيان، وقد صحح ذلك العديد من المحققين، وعلى رأسهم الشريف الرّضي، حين أوردها في نهج البلاغة، وكذلك أوردها العلامة الكبير، والمحقق النافذ، عمرو بن بحرٍ الجاحظ؛ فقد ذكر هذه الخطبة في كتابه (البيان والتبيين) وذكر من نسبها إلى معاوية، ثم تكلم من بعدها بكلام في معناها، جملته أنه قال: وهذا الكلام بكلام عليّ (عليه السلام) أشبه، وبمذهبه في تصنيف الناس وفي الاِخبار عماهم عليه من القهر والاِذلال ومن التقية والخوف أليق. ثمّ قال: ومتى وجدنا معاوية في حال من الاَحوال يسلك في كلامه مسلك الزهاد، ومذاهب العُبّاد؟([1]).
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام):
"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا في دَهْرٍ عَنُودٍ([2]) وَزَمَنٍ كَنُودٍ([3]) يُعَدُّ فِيهِ الُمحْسِنُ مُسِيئاً، وَيَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً([4])، لاَ نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا، وَلاَ نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا، وَلاَ نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً([5]) حَتَّى تَحُلَّ بِنَا.. فَالنَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ: مِنْهُمْ مَنْ لاَ يَمْنَعُهُ الفَسَادَ في الأرْضِ إِلاَّ مَهَانَةُ نَفْسِهِ([6])، وَكَلاَلَةُ حَدِّهِ([7]) وَنَضِيضُ وَفْرِهِ([8]) وَمِنْهُمُ المُصْلِتُ لِسَيْفِهِ، وَالمُعْلِنُ بِشَرِّهِ، وَالُمجْلِبُ بِخَيْلِهِ([9]) وَرَجِلِهِ([10]) قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ([11]) وَأَوْبَقَ دِينَهُ([12]) لِحُطَامٍ([13]) يَنْتَهِزُهُ([14]) أَوْ مِقْنَبٍ([15]) يَقُودُهُ، أَوْ مِنْبَر ٍيَفْرَعُهُ([16]) وَلَبِئْسَ المَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً([17])، وَمِمَّا لَكَ عِنْدَ اللهِ عِوَضاً! وَمِنْهُمْ مَنْ يَطلُبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَلاَ يَطْلُبُ الآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا، قَدْ طَامَنَ([18]) مِنْ شَخْصِهِ، وَقَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ، وَشَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ، وَزَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلأمَانَةِ، وَاتَّخَذَ سِتْرَ اللهِ ذَرِيعَةً([19]) إِلَى المَعْصِيَةِ.. وَمِنْهُمْ مَنْ أقْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ المُلْكِ ضُؤولَةُ نَفْسِهِ([20]) وَانقِطاعُ سَبَبِهِ، فَقَصَرَتْهُ الحالُ عَلَى حَالِهِ، فَتَحَلَّى بِاسْمِ القَنَاعَةِ، وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ذلِكَ في مَرَاحٍ([21]) وَلاَ مَغْدىً([22]) وَبَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْمَرْجِعِ، وَأَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْـمَحْشَرِ، فَهُمْ بَيْنَ شَرِيدٍ نَادٍّ([23]) وَخَائِفٍ مَقْمُوعٍ([24]) وَسَاكِتٍ مَكْعُومٍ([25]) وَدَاعٍ مُخْلِصٍ، وَثَكْلاَنَ([26]) مُوجَعٍ، قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ([27]) التَّقِيَّةُ([28]) وَشَمِلَتْهُمُ الذِّلَّةُ، فَهُمْ في بَحْرٍ أُجَاجٍ([29]) أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ([30]) وَقُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ([31]) قَدْ وَعَظُوا حَتَّى مَلُّوا وَقُهِرُوا حَتَّى ذَلُّوا، وَقُتِلُوا حَتَّى قَلُّوا. فَلْتَكُنِ الدُّنْيَا أَصْغَرَ في أَعْيُنِكُمْ مِنْ حُثَالَةِ([32]) الْقَرَظِ([33]) وَقُرَاضَةِ الْجَلَمِ([34]) وَاتّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ؛ وَارْفُضُوهَا ذَمِيمَةً، فَإِنَّهَا قَد رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ بِهَا([35]) مِنْكُمْ"
([36]).
[7]أي ضعف إمكاناته، الحد الكليل هو الذي لا يجرح.
[9] الذي حشد فرسانه لتنفيذ شروره.
[10] الذي حشد الرجّالة لتنفيذ شروره.
[17] بئس التجارة عندما تكون نفسك الثمن.
[20] قلّة إمكاناته، وحقارة نسبه.
[23] الطالب للنأي عن الجماعة.
[27] جعلته خاملاً، قليل النّشاط.
[28] إخفاء الحقيقة عن الناس اتقاءً لهم.
[33] نبات له لون دامغ كان يصبغ به.
[34] زغب الصوف الناتج عن الجزّ.
[36] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ١- ص 77.