الخطبة رقم (90) للإمام عليّ (عليه السلام): وتسمّى "خطبة الأشباح" وفيها يذكر الإمام عليه السلام ربّ العزّة بصفات يقشعر لها أبدان المؤمنين، لما فيها من وصف تنزيه الله عن المشابهة وخطرات الفكر، وهي من أشهر الخطب المرويّة عن أمير المؤمنين (عليه اللام) وقد رواها عنه جمع غفير قبل أن يجمعها الشريف الرّضي في موسوعته نهج البلاغة.
روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) أنّه قال: "خطب أمير المؤمنين عليه السلام والصلاة بهذه الخطبة على منبر الكوفة، وذلك أن رجلاً أتاه فقال له: يا أمير المؤمنين! صف لنا ربّنا لنزداد له حباً وبه معرفة.فغضب (عليه السلام) ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس حتى غصّ([1]) المسجد بأهله.فصعد المنبر وهو مغضب([2]) متغيّر اللون، فحمد الله سبحانه وصلّى على النبي (صلى الله عليه وآله)، ثمّ قال: "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لاَ يَفِرُهُ الْمَنْعُ([3]) وَالْجُمُودُ، وَلاَ يُكْدِيهِ
([4]) الإعْطَاءُ وَالْجُودُ; إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَانِع مَذْمُومٌ مَا خَلاَهُ، وَهُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ
([5])، وَعَوائِدِ المَزِيدِ وَالْقِسَمِ
([6])، عِيَالُهُ الْخَلاَئِقُ، ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ، وَقَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ، وَنَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ، وَالطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ، وَلَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلُ
([7]).
الاَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيءٌ قَبْلَهُ، وَالاخِرُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ بَعْدَهُ، وَالرَّادِعُ أَنَاسِيَّ([8]) الأبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ، مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الحَالُ، وَلاَ كَانَ فِي مَكَان فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الانتِقَالُ، وَلَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ([9]) الْجِبَالِ، وَضَحِكَتْ عِنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ، مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَالْعِقْيَانِ([10])، وَنُثَارَةِ الدُّرِّ
([11]) وَحَصِيدِ الْمَرْجَانِ
([12])، مَا أَثَّرَ ذلِكَ فِي جُودِهِ، وَلاَ أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ، وَلَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الاَنْعَامِ مَا لاَ تُنْفِدُهُ
([13]) مَطَالِبُ الاَنَامِ، لأنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لاَ يَغِيضُهُ
([14]) سُؤَالُ السَّائِلِينَ، وَلاَ يُبْخِلُهُ
([15]) إِلْحَاحُ المُلِحِّينَ.
فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ: فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ([16]) واستضئ بِنُورِ هِدَايَتِهِ، وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ، وَلاَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وَأَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ، فَكِلْ عِلْمَهُ([17]) إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ ذلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللهِ عَلَيْكَ.وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ([18]) الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ، الاْقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغيْبِ الْـمَحْجُوبِ، فَمَدَحَ اللهُ -تَعَالَى- اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً، وَسَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيَما لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً، فاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ، فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ.هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي إِذَا ارْتَمَتِ الاَوْهَامُ([19]) لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ([20]) قُدْرَتِهِ، وَحَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ، وَتَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ([21]) لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ، وَغَمَضَتْ([22]) مَدَاخِلُ الْعُقُولِ في حَيْثُ لاَ تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ لِتنالَ عِلْمَ ذَاتِهِ، رَدَعَهَا([23]) وَهِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ([24]) الْغُيُوبِ، مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ ـ سُبْحَانَهُ ـ فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ([25])، مُعتَرِفَةً بِأَنَّهُ لاَ يُنَالُ بِجَوْرِ الاعْتِسَافِ([26]) كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ، وَلاَ تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ([27]) خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلاَلِ عِزَّتِهِ.الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَال امْتَثَلَهُ([28])، وَلاَ مِقْدَار احْتَذَى عَلَيْهِ([29])، مِنْ خَالِق مَعْبُود كَانَ قَبْلَهُ، وَأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ، وَعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثارُ حِكْمَتِهِ، وَاعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ([30]) قُوَّتِهِ، مَا دَلَّنا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أحْدَثَها آثَارُ صَنْعَتِهِ، وَأَعْلاَمُ حِكْمَتِهِ، فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَدَلِيلاً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً، فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ، وَدَلاَلَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ.فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ، وَتَلاَحُمِ حِقَاقِ([31]) مَفَاصِلِهِمُ الْـمُحْتَجِبَةِ([32]) لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ، لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ، وَلَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لاَنِدَّ لَكَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ المَتبُوعِينَ إِذْ يَقُولُونَ: (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَل مُبِين*إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ([33])، إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ وَنَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْـمَخْلُوقِينَ([34]) بِأَوْهَامِهمْ، وَجَزَّأُوكَ تَجْزِئَةَ الْـمُجَسَّماتِ بِخَوَاطِرِهِمْ، وَقَدَّرُوكَ([35]) عَلَى الْخِلْقَةِ الْمخْتَلِفَةِ الْقُوَى، بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ.فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْء مِنْ خَلْقِكِ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ، وَالْعَادِلُ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آياتِكَ، وَنَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ، وَإِنَّكَ أَنْتَ اللهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ، فَتَكُونَ في مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً، وَلاَ فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا [فَتَكُونَ ] مَحْدُوداً مُصَرَّفاً([36])".
وقال أيضاً (عليه السلام): "قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ، وَدَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ، وَوَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ، وَلَمْ يَقْصُرْ دُونَ الاْنْتِهَاءِ إِلى غَايَتِهِ، وَلَمْ يَسْتَصْعِبْ([37]) إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَكَيْفَ وَإِنَّمَا صَدَرَتِ الاُورُ([38]) عَنْ مَشيئَتِهِ؟ المُنشئ أصْنَافَ الاْشْيَاءِ بِلاَ رَوِيَّةِ([39]) فِكْر آلَ إِلَيْهَا، وَلاَ قَريحَةِ غَرِيزَة
([40])أَضْمَرَ عَلَيْهَا، وَلاَ تَجْرِبَة أَفَادَهَا([41]) مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ، وَلاَ شَرِيك أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الاْمورِ، فَتَمَّ خَلْقُهُ، وَأَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ، وَأَجَابَ إِلى دَعْوَتِهِ، لَم يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ([42]) الْمُبْطِئ، وَلاَ أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئ([43])، فَأَقَامَ مِنَ الاْشْيَاءِ أَوَدَهَا([44])، وَنَهَجَ([45]) حُدُودَهَا، وَلاَءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا، وَوَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا([46])، وَفَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَات فِي الْحُدُودِ وَالاْقْدَارِ، وَالْغرَائِزِ([47]) وَالْهَيْئَاتِ، بَدَايَا([48]) خَلاَئِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا، وَفَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَابْتَدَعَهَا([49])".
[3] لا يزيد ملكه عدم العطاء.
[5] يمن على خلقه بالفائدة.
[6] ويقسم لعباده المزيد والمزيد من عوائد الخير والبركة.
[7] وهو الكريم يعطي حتى وإن لم يُسأل العطاء.
[17] أرجعه إلى الله، وفوض أمرك له.
[19] رمت نفسها، كناية عن بلوغ أبعد ما تستطيع.
[21] ذابت القلوب من التفكير به.
[26] بظلم الخروج عن المألوف.
[28] أبدع الخلق من غير نماذج سابقة، أو مخططات.
[29] لم يقلّد نماذج سابقة.
[30] المقبض لإمساك الشيء.
[35] صنعوا لك مجسّمات تشبههم.
[36]شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد- ج 6- ص 398 وما بعدها.
[40] تدفق في الخواطر والأفكار.
[41] استفاد من تجارب سابقة.
[46] ربط بين كل قرين وقرينه.
[49] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٦ - الصفحة ٣٩٨ وما بعدها.