الولاة كما يراهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)

2023.10.17 - 03:21
Facebook Share
طباعة

  إنّ توليّ أمور النّاس هو ما أخطر المسؤوليّات التي يتصدّى العباد لها، يسعون إليها جاهدين، يسفكون لأجلها الدّماء، يهدمون البيوت، يدمرون المدن، يتشبثون بكرسيّ الولاية حتّى آخر رمق، تُرى ما الذي في هذا المنصب من سحر حتّى يجعل النّاس عبيداً له إلى هذه الدّرجة؟ توّاقين له، باذلين لأجله مهج أغلى أبناءهم وفلذات أكبادهم، فكم حدّثنا التاريخ عن سلاطين قتلت أبناءها حتّى لا تنازعها في سلطانها. غير أنّ لأمير المؤمنين علي بن طالب مفهوم آخر لتولّي الحكم، فتولي أمور الناس له أسس، وشروط، سوف نتناولها بإيجاز في هذا البحث الفريد:

أولاً- الزهد، زهد أمير المؤمنين (عليه السلام) بتولي الخلافة:
ربّما لا نجد له مشابهاً لهذه الحالة في التاريخ الإسلامي كلّه، فالإمام (عليه السلام)، اعتزل البيعة بعد وفاة الرّسول (ص)، وهو يعلم حق العلم "أنّ مكانه منها مكان القطب من الرّحى([1])"، ويعلم جلّ الصحابة أنّ رسول كان قد خصّ أمير المؤمنين بالكثير من الوصايا التي لا تأويل لها إلا بخلافته في الأمر، كحديث المنزلة، وحديث الغدير، وغيرها الكثير مما لا مجال لذكره الآن. لم يحارب من أجل الوصول للسلطة، مع أنّه لو فعل لعذره أهل الإنصاف، لكنه اعتصم في بيته أوّل الأمر، ثمّ عرض خدماته على الخلفاء الأول الذين سبقوه، حتّى قال عمر بن الخطّاب (رض): "لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن([2])"، وقال أيضاً: "لولا عليّ لهلك عمر([3])". ثمّ نجده بعد ذلك يرفض الخلافة حين ساووه بستّة بعد مقتل عمر، وقال لهم مقولته الشهيرة معتزلاً: "لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي وَوَاللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَفَضْلِهِ وَزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ([4])". ومضت فترة خلافة عثمان (رض) بما فيها وما عليها، وعاد النّاس لأبي الحسن دون أن يشركوا معه في الأمر أحداً، فما كان جوابه؟ لقد قال لهم ما ليس بحسبان أحد، قال: "لا حاجة لي في امركم فمن اخترتم رضيت به". فأصرّوا عليه قالين: "ما نختار غيرك". وترددوا إليه مرارا، وقالوا له في آخر ذلك: "انا لا نجد اليوم احدا أحق بهذا الامر منك، لا أقدم سابقة ولا أقرب قرابة من رسول الله". فقال (عليه السلام): "لا تفعلوا، فاني لكم وزيرا خير من ان اكون أميرا([5])". ثمّ ارتضى ذلك بعد إصرارهم عليه لأسبوع كامل، فمتى حدث مثل ذلك في تاريخ الملوك، والأمم؟ ولا مرّة أبداً، إلا مع أمير المؤمنين، لأن لا منفعة يرتجيها أبو الحسن من قيادة الأمّة، وإنما هي محض مسؤوليّة.
ثانياً- الحكم أمانة عظيمة:
إن ما ينطبق على شخص أمير المؤمنين (عليه السلام)، لا بدّ أن ينطبق على عمّاله، وولاته الذين اختارهم للأقاليم والأمصار منذ توليّه أمر المسلمين، فالمنصب أمانة سيشترك هؤلاء معه فيها، وسيُسأل عن لأعمالهم أمام الله سبحانه وتعالى، لذلك تراه يقول لبعض كبار ولاته: "أشْرَكْتُكَ فِي أمَانَتِي([6])".وكذلك قال عليه السلام: "بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ وَعَصَيْتَ إِمَامَكَ وَأَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ… وَاعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ وَالسَّلام([7])".‏وقال عليه السلام أيضاً لبعض عمّاله: "وَإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ وَلَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ وَأَنْتَ مُسْتَرْعًى لِمَنْ فَوْقَك([8])‏".
ثالثاً- الحاكم يطمع بالمثوبة من عند الله فقط، وليس بالمنفعة من المنصب:
ليس للحاكم، أو الوالي من مطمع فيما تولاه، إلا وجه الله تعالى، وخدمة عباده، ولذلك فإنّه كان حريصاً على ذلك في نفسه، وفي عمّاله الذين ولاهم على الأمصار، يقول عليه السلام: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَحْذَرْ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ،‏ لَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ مَا يُحْرِزُهَا؛ وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ يَسِيرٌ، وَأَنَّ ثَوَابَهُ كَثِيرٌ…، فَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَاصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ فَإِنَّكُمْ خُزَّانُ الرَّعِيَّةِ، وَوُكَلاَءُ الأُمَّةِ، وَسُفَرَاءُ الأَئِمَّةِ، وَلاَ تُحْشِمُوا أَحَداً عَنْ حَاجَتِهِ، وَلاَ تَحْبِسُوهُ عَنْ طَلِبَتِهِ…، وَلاَ تَدَّخِرُوا أَنْفُسَكُمْ نَصِيحَةً، وَلاَ الْجُنْدَ حُسْنَ سِيرَةٍ، وَلاَ الرَّعِيَّةَ مَعُونَةً، وَلاَ دِينَ اللهِ قُوَّةً([9])".
رابعاً- الرّحمة:
الحاكم رحوم بالرعيّة، فالله لم ينصبه أحداً جلاداً على خلقه، ولكم سمعنا من حكّام حكموا باسم الإسلام تفاخروا بتقطيع الرؤوس، والقتل وسفك الدّماء، بينما الحاكم عند أمير المؤمنين (عليه السلام) هو نموذج آخر، لا كهذه الآفات البشريّة التي لم تعرف الله، ولم تعرف رسوله، يقول عليه السلام في عهده لمالك الأشتر حين وجهه إلى مصر: "وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ‏ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق…، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَالِي الأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ بِمَا عَرَّفَكَ مِنْ كِتَابِهِ وَبَصَّرَكَ مِنْ سُنَنِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وآله عَلَيْكَ بِمَا كَتَبْنَا لَكَ فِي عَهِدْنَا هَذَا لاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللهِ فَإِنَّهُ لاَ يَدَ لَكَ بِنَقِمَتِهِ وَلاَ غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِه"([10]).
خامساً- السماحة:
فمادّة الحكم هي السماحة والعفو، تماماً كما هي في القصاص وإقامة القانون، فالحاكم في عُرف أمير المؤمنين (عليه السلام) أبٌ للجميع، والخطأ إنما هو طبيعة بشريّة، لذلك على الوالي أن يقرّب عفوه وتعذيره للمرتكب، كما يوقع العقاب على الذي لا ورع يردعه، فالحاكم العادل يفتّش عن أعذار للمرتكب كما يفتّش الظالم عن أسباب لإرهاب الناس من خلال إيقاع أقصى العقوبات حتّى بالأبرياء، يقول عليه السلام: "وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَلاَ تَبْجَحَنَ‏ بِعُقُوبَةٍ وَلاَ تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ [عَنْهَا] مِنْهَا مَنْدُوحَةً وَلاَ تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَر…، وأَنْصِفِ اللهََ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ [هَوًى فِيهِ‏] فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَه".([11])
سادساً- التوجّه نحو العامّة، وإغفال الخواص:
لكل حاكم بطانة من المتزلّفين، وأهل المراءاة والمحاباة، تقتضي مصالحها الخاصّة التودد للحاكم، وملازمته، وكلنا يعرف مدى تأثير هذه الحواشي على قرارات الحاكم، وكم يزيفون له من أمور، ويزينون له أخرى، بغية حمله على انتهاك حرم الله لأجل مصالحهم ومكاسبهم، وهذا ما يحذر منه أمير المؤمنين (عليه السلام) عمّاله أن يقعوا في مثل ذلك، ويحثهم على استجلاب رضى العامّة من الشعب، لأن في رضاها رضى الله، يقول عليه السلام: "وَلْيَكُنْ أَحَبَ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِ وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا [لِرِضَا] لِرِضَى الرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ [بِرِضَا] بِرِضَى الْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ [رِضَا] رِضَى الْعَامَّة، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي البَلاَءِ وَأَكْرَهَ لِلإِنْصَافِ وَأَسْأَلَ بِالإِلْحَافِ وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإِعْطَاءِ وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّة".([12])
يتّضح مما سبق أنّ النموذج العلوي في الحكم، كان سابقة غير معروفة في التاريخ البشري، لذا لا نستغرب أن تعتبر الأمم المتّحدة ممثلة بأمينها العام السيّد كوفي عنان، شخص أمير المؤمنين (عليه السلام)، أعدل حاكم مرّ على تاريخ البشريّة. بالطّبع، فإن ما جسّده أبو الحسن من نموذج للحاكم المثالي لا يتكرر أبداً، ولو قيّض الله لأمير المؤمنين دولةً مستقرّة غير التي استلمها، لربّما نشر دين الله في أصقاع العالم القديم قاطبة بعدله وسماحته.
 
مؤسسة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) للدراسات والتوثيق


[1]شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١ - الصفحة ١٥١.
[2]تذكرة السبط: 87 , مناقب الخوارزمي: 58 , مقتل الخوارزمي 1 / 45).
[3] أخرجه أحمد والعقيلي وابن السمان، ويوجد في الاستيعاب 3 / 39, الرياض 2 / 194, تفسير النيسابوري 26 / 10, مناقب الخوارزمي: 48, شرح الجامع الصغير للشيخ محمد الحفني: 47 , تذكرة السبط: 87 , مطالب السؤول: 13 , فيض القدير 4 / 357.
[4]شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٦ - الصفحة ١٦٦.
[5] تاريخ الطبري، وتاريخ ابن الأثير.
[6]نهج البلاغة، نهج البلاغة:412 الكتاب رقم41.
[7] نهج البلاغة: 411، برقم 40.
[8] نهج البلاغة: 366، برقم 5.
[9] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ٣ - الصفحة ٨٠.
[10] نهج البلاغة:427، برقم53.
[11] المرجع السابق.
[12] المرجع السابق.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى