ليس غريباً أن يكون الإمام علي، عالماً متمكناً في العلوم الفقهية واللغوية، وأوليات علم الحساب التي تخص عمليات توزيع الإرث، و تحصيل الزكاة، وحل بعض المسائل الحسابية المتضمنة كسوراً، وهو الذي تربّى في أحضان النبوة، و نهل علمه منها، حيث يقول الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه و آله): "أنا مدينة العلم و علي بابها، فمن أراد العلم فليأت بابه([1])". وفي هذا المقام يقول عباس محمود العقاد: "فقلَّ أن سمعنا بعلم من العلوم الإسلامية، أو العلوم القديمة لم ينسب إليه، (أي للإمام علي)، وقَلّ أن تحدّث الناس بفضل، لم ينحلوه إياه، وقلّ أن يوجّه الثناء بالعلم إلى أحد من الأوائل، إلاّ كانت له مساهمة فيه. ويقول أيضاً: تبقى له (للإمام علي) الهداية الأولى في التوحيد الإسلامي، والقضاء الإسلامي، والفقه الإسلامي، وعلم النحو العربي، وفن الكتابة العربية. مما يجوز لنا أن نسميه أساساً صالحاً لموسوعة المعارف الإسلامية في العصور، أو يجوز لنا أن نسميه موسوعة المعارف الإسلامية كلها في الصدر الأول في الإسلام. وتبقى له مع هذا فرائد الحكمة التي تسجل له في ثقافة الأمة الإسلامية على تباين العصور([2]).
وإضافة إلى ما يمتلكه الإمام عليّ (عليه السلام) من علم، ونفاذ بصيرة، فإنّه ما فتئ يحثّ على طلب العلم، ويذكر أهميّته، فيقول على سبيل المثال: "تعلّم العلم فإنّه إن كنت غنياً زانك، وإن كنت فقيراً صانك. ثروة العلم تنجي وتبقي، وثروة المال تهلك وتفنى. ثروة العاقل في علمه، وثروة الجاهل في ماله". ويقول أيضاً: "كل وعاء يضيق بما جعل فيه، إلاّ وعاء العلم فإنه يتسع به([3])".
إن خطب الإمام، ورسائله، ووصاياه التي وردت في نهج البلاغة، تعجّ بمفاهيم حسابية، كالأعداد، والكسور، ووحدات قياس الطول، وتعبيرات رياضية. قال (عليه السلام)، وهو يذكر الرقم أربعة: "من أعطي أربعاً لم يحرم أربعا: من أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة، ومن أعطي التوبة لم يحرم القبول، ومن أعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة، ومن أعطي الشكر لم يحرم الزيادة([4])". في الرقم خمسة قال (عليه السلام): "أوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط الإبل، لكانت لذلك أهلا: لا يرجوَّن أحد منكم إلاّ ربه، ولا يخافنّ إلاّ ذنبه، ولا يستحين أحد منكم إذا سئل عما لا يعلم، أن يقول "لا أعلم" ، ولا يستحين أحدا إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه، وعليكم بالصبر، فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه([5])".
ذكر في كلام له في التبرؤ من الظلم: "واللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة، بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت([6])".
ذكر في خطبة الأشباح بقوله: "ولم يخلهم بعد أن قبضه مما يؤكد عليهم حجة ربوبيته، ويصل بينهم وبين معرفته، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه ومتحملي ودائع رسالاته، قرنا فقرنا، حتى تمت بنبينا محمد (صلى الله عليه و آله) حجته، وبلغ المقطع عذره ونذره([7])".
في جواب له عندما سئل (عليه السلام) عما بين الحق والباطل. فقال: "مسافة أربع أصابع. الحق أن تقول: رأيت بعيني، والباطل أن تقول: سمعت بأذني([8])".
وذكر في كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، عامله على البصرة، بقوله: "فو اللّه ما كنزت في دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، ولا حزت من أرضها شبرا". ولا عجب في ذلك فهو الذي يقول على ملأ من الناس: "سلوني قبل أن تفقدوني". وفي هذا المقام يقول عباس محمود العقاد عن الإمام (عليه السلام): "وفي أخباره، مما يدل على علمه بأدوات الفقه كعلمه بنصوصه وأحكامه. ومن هذه الأدوات علم الحساب الذي كانت معرفته به أكثر من معرفة فقيه يتصرف في معضلة المواريث، لأنه كان سريع الفطنة إلى حيله التي كانت تعدّ في ذلك الزمن ألغازاً تكدّ في حلها العقول([9])".
المصدر بحث علمي شيق للأستاذ أحمد محمد جواد محسن في عِلم الحِساب عند الإمام علي عليه السلام، منشور بشكل موسّع اضغط هنا
[1] مستدرك الحاكم - كتاب معرفة الصحابة (ر) - أنا مدينة العلم وعلي بابها - حديث رقم: (4693)، وغيرهم.
[2] عباس محمود العقاد (1967)، "عبقرية الإمام علي"، دار الكتاب العربي، بيروت: 190.
[3] علي بن أبي طالب (1993) " نهج البلاغة "، شرح محمد عبده: 4، مؤسسة الأعلمي بيروت: 671.
[8] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ٢ - الصفحة ٢٤.
[9] عباس محمود العقاد المرجع السابق ص 190.