قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، واصفاً الغنى بعكس ما يتعارف الناس عليه، موغلاً في العمق والمنطق، فاستغناؤك عن الشيء هو الغنى، أما استغناؤك بالشيء فهو افتقار له، وعيش تحت رحمة فقده ليس إلا:
"الغِنى هوَ غِناكَ عَنِ الشَيءِ لا بِهِ".
وقال عليه السلام أيضاً، واصفاً أفضل النّاس بذات العمق، وبلغ البيان، فهم ليسوا أهل الكياسة والجمال، أو الذين يرتدون الملابس الفاخرة، ويركبون الرّواحل الفارهة، بل هم الذين يملكون أنفسهم حين الغضب، فلا يخرجهم غضهم من دائرة الحق، فلا يظلمون ولا يرتكبون إثماً بحجّة الغضب، وإذا أحبّوا أيضاً فهم يملكون أنفسهم كذلك، ولا يدخلهم هواهم في دائرة الباطل فيرتكبون الآثام لأجل عيون الحبيب، أو ما تهواه أنفسهم:
"أفضل الناس من لا يخرجه غضبه عن الحق، ولا يدخله هواه في الباطل"
ويقول أيضاً (عليه السلام)، إن من أعظم نعم الله على الإنسان حاجة النّاس إليه، ففي ذلك دليلاً قاطعاً على تفضيلك عن باقي خلقه، وإلا لما لجأوا إليه:
"من فضل الله عليك - حاجه الناس إليك"
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام)، لمن يرى نفسه وحيداً عندما يعمل بالحقّ، أو ينطق بالحقّ، أو ينصح بالحقّ، فيبشّره الإمام أنّ هذا من دلائل صحّة توجهه:
"لا تستوحشن طريق الحق لقلة سالكيه"([1])
ويقول كرم الله وجهه لا يوجد عارٌ على المرء أقبح من أن يكون بخيلاً، ولا نقص في الشخصيّة يورث جميع النواقص كالجبن. أمّا الفقر فهو يجعل المرء مشغول الفكر على الدّوام، فتتعطّل فطنته، ولا يستطيع حلّ مشاكله، وبالتالي الحصول على حاجاته. والمقلّ الذي ينكفئ عن مجتمعه، القاطع للصلات مع جيرانه، هو غريب مقيم، لأنّ لا أحد يعرف عنه شيئاً، والعجز آفة تصيب الإنسان كالمرض، أي أنّ مصدر العجز دائماً خارجي، فالإنسان قادر دوماً لولا إصابته بهذا المرض، والصّبر هو شجاعة تحمل العبء من غير تبرّم، والزّهد ثروة لأنّ معه ستكون غنيّاً عن كل ما يطلبه الآخرون بشدة، والورع عن محارم الله درع يقيك كل شر:
"الْبُخْلُ عَارٌ وَاَلْجُبْنُ مَنْقَصَةٌ وَاَلْفَقْرُ يُخْرِسُ اَلْفَطِنَ([2]) عَنْ حَاجَتِهِ حُجَّتِهِ وَاَلْمُقِلُّ([3]) غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ والْعَجْزُ آفَةٌ، وَالصَّبْرُ شَجَاعَةٌ، وَالزُّهْدُ ثَرْوَةٌ، وَالْوَرَعُ جُنَّةٌ([4])"
([5])
وفي موقع أخر يقول (عليه السلام) نحن قومٌ نموت قبل أن نُذلّ، ونعيش في قلّة، ولا نتوسل العطاء من أحد، ومن لم يعطه أحدٌ وهو مقعدٌ أو عاجزٌ أو مريض، لن يعطيه أحدٌ وهو معافى، وهذا الدهر دائماً يكون على حالين لا ثالث لهما، فإمّا أن يكون معك فترى كلّ شيء يسير كما تشتهي فعليك في هذه الحالة ألا تبطر وتفسدك النعم، لأن حال الدّهر الثاني لا بدّ سيزورك، حينها ستجد كل شيء ضدك وتنقلب النّاس كلها عليك، فعليك يومها بالصّبر، لأن ذلك لن يدوم أيضاً وسيعاود الدهر مرّة أخرى التجاوب معك:
"الْمَنِيَّةُ وَلاَ الدَّنِيَّةُ([6])! والتّقَلُّلُ([7]) وَلاَ التَّوَسُّلُ، وَمَنْ لَمْ يُعْطَ قَاعِداً لَمْ يُعْطَ قَائِماً، وَالدَّهْرُ يَوْمَانِ: يَوْمٌ لَكَ، وَيَوْمٌ عَلَيْكَ، فَإذَا كَانَ لَكَ فَلاَ تَبْطَرْ، وَإِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِر"
.
قال (عليه السلام) لولده الحسن، إن الرّزق يا ولدي صنفان، رزقٌ تسعى وراءه، فتقضي عمرك في الجري خلفه، ورزقٌ مقسوم لك لن يناله أحدٌ سواك، هذا الصنف سيبحث عنك إن لم تجده أنت سيجدك، ويعطيك ما كُتب لك، واعلم يا ولدي أن يكون طبع الإنسان مرهون بحاجته، فإذا احتاجك كان خادمك المطيع، وإن استغنى عنك جافاك وقطعك:
"واعلَم يا بُنَيَّ اَنّ الرِزقَ رِزقَانِ: رِزقٌ تَطلِبُه ورِزقٌ يَطلِبُكَ، فَإن انتَ لَم تَأتهِ أتَاكَ. ما أقبَحَ الخُضوعَ عِندَ الحاجَةِ، وَالجَفاء عِندَ الغِنى"([8]).
[1] جامع أحاديث الشيعة - للسيد البروجردي - ج 14 - ص 405.
[3] المقل بالتواصل مع من حوله.
[5] نحوه باختصار عند ابن شعبة (ق 4) في تحف العقول: 201.
[8] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٦ - الصفحة ١١٢.