الفكر الاداري وتوجيه الولاة في كلام الامام علي (ع)

2023.08.07 - 12:20
Facebook Share
طباعة

 أورد الامام علي (عليه السلام) العديد من النصوص في توجيه الولاة في معاملاتهم، ومراقبة أعمالهم، وإنزال العقوبة بالفاسد منهم، وهو بذلك سبق الوزير نظام الملك في هذا العلم بقرون طويلة، وسبق ميكافيللي أيضاً، إذ نستطيع أنّ نقول بحقّ، بأنّ أمير المؤمنين هو واضع النظريّة الإداريّة للدولة العربيّة. ويكفي أن نشير إلى أهمّ مخطوطة عربيّة نالت الاهتمام العالمي بعد القرآن الكريم، وهي عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر حين ولاّه على مصر، يقول فيه (عليه السلام):

«فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَة اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ، اكْتَفَيْتَ بِذلِكَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ»([1]).
إذ يجب عدم التهاون مع الفاسدين، الذين توّلوا أمور الناس فاستبدّوا وتسلّطوا عليهم، ومعاجلتهم بالعقوبة المسلكيّة أو الجسديّة حال ثبوت أمر فسادهم، ووصمهم بهذا العار بقيّة حياتهم، فيُستبعدون من الخدمة العامّة.
ويقول (عليه السلام) في موضع آخر لبعض عمّاله مؤنّباً إيّاه على اختلاس أموال الموظفين، ومتوعّداً إيّاه بالعقوبة المناسبة:
«فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الاُمَّةِ، أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ، وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ، وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لأرَامِلِهِمْ وَأيتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الاْزَلِّ»([2]).
وقد هدد أمير المؤمنين (عليه السلام) أحد ولاته يوماً، بأنّه سمع عنه أمراً سيحاسبه عليه إذا صحّ، طالباً منه أن يرفع إليه لائحةً بممتلكاته، وهو ما يشبه رفع السريّة المصرفيّة عنه في أيامنا هذه، إذ قال:
«أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ، إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ، وَعَصَيْتَ إِمَامَكَ، وَأَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ. بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ الاْرْضَ فأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ، وَأَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ، وَالسَّلاَمُ»([3]).
فيما يذكره الإمام (عليه السلام) عن عقوبة العزل، لمن ثبت عليهم أنّهم لا يصلحون لهذه المناصب، إذ يجب على الحاكم العادل أن يعزلهم، فقد كتب (عليه السلام) يوماً إلى أحد ولاته، بعد أن بلغه عنه خيانة:
﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾. إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك من أعمالنا حتى نبعث إليك من يتسلمه منك، ثم يرفع طرفه الى السماء فيقول: اللهم إنك تعلم أني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك"([4]).
فضلًا عن ذلك، فإن الإمام (عليه السلام) يلفت نظر الوالي الى مسألة "الرشوة"، التي قد يأخذها الولاة لقاء تقديم خدمة ما للرعية، ضارباً لهم المثل بنفسه، حين جاء لعين إليه بهديّة طالباً منه ما ليس له بحق، فأجابه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقول فصلٍ في المسألة، بقوله:
«وَأَعْجَبُ مِنْ ذلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفَوفَة فِي وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَة شَنِئْتُهَا، كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِريقِ حَيَّة أَوْ قَيْئِهَا، فَقُلْتُ: أَصِلَةٌ، أَمْ زَكَاةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَذلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ! فَقَالَ: لاَ ذَا وَلاَ ذَاكَ، وَلكِنَّهَا هَدِيَّةٌ، فَقُلْتُ: هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ أَعَنْ دِينِ اللهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي؟ أَمُخْتَبِطٌ أَنْتَ أَمْ ذُو جِنَّة، أَمْ تَهْجُرُ؟ وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الاْقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَة أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَة مَا فَعَلْتُهُ»([5]).
من أين لنا بحاكم عادلٍ كأمير المؤمنين؟ من أين لنا بشخصٍ لم يجد التاريخ بمثله؟ شخص لعدله تجرأت النّاس عليه، ولو كان جبّاراً كغيره لدانت له الأرض، شخص كان إذا تكلّم في شؤونه الشخصيّة أطفأ السّراج المشتعل من زيت بيت المال. السلام عليك يا مولاي، يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يا مستودع علم الله، وظلال عدله.


[1]- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٧ - الصفحة ٦٩.
[2] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٦ - الصفحة ١٦٧.
[3]- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٦ - الصفحة ١٦٤.
[4]- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ - محمد الريشهري - ج ٤ - الصفحة ١٥١.
[5]- نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ٢ - الصفحة ٢١٨.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى