الحق والباطل في فكر الامام علي (عليه السلام)

2023.08.07 - 12:18
Facebook Share
طباعة

 يقول الامام علي (عليه السلام):

"إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتابُ اللهِ، وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللهِ، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ، وَ لَو أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ; وَلكِن يُؤْخَذُ مِنْ هذَا ضِغْثٌ، وَ مِنْ هذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَنْجُو (إنّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى)"([1]).
على هذا الأساس كان لأمير المؤمنين (عليه السَّلَام) كلام في غاية الدقة والوصف، فإن إلباس الباطل ثياب الحق، هو سبب اتّباع الناس للآراء الفاسدة، وما يستتبع ذلك من امتزاج الباطل بالحق.
وخير دليل على من يلبس لباس الحق وهو في داخله منبع للباطل، هو الحاكم الفاسد المتستر بالدين، ففي باطنه ضلال مزخرف بدين الله عز وجل، يأمر الناس بآيات الله، وجنّد لخدمته جلاوزة، وفقهاء لا يفهمون من دين الله شيئا، فمالوا بالحقّ إلى آرائه، ونصّبوا أنفسهم للقضاء بين النّاس، زوراً وبهتاناً.
جاء عن الامام علي (عليه السلام):
"كم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب الله كما يزخرف الدرهم النحاس بالفضة المموهة"([2]).
إذاً يجب على الإنسان أن يفكر مليّاً في كل ما يصل إليه، وأن يكون الفكر رائده إلى الحق أنّى كان مصدره. وألا يكون اتباعه لأحد إتباعاً أعمى، بل إنّما يكون عن وعي، وانتقاد وتمحيص، فإن من تركوا ذلك تاهوا بسبب تقديمهم للباطل، وتغليبهم إياه، لجهلهم بأنّه باطل، وتركوا نصرتهم للحقّ، فأضاعوه وتضاعف ضياعهم، فكان تيههم أشدّ من تيه بني إسرائيل، وهذا ما أشار اليه الامام علي (عليه السلام):
"أَيُّهَا النَّاسُ، لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ، لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ، وَلَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ، لكِنَّكُمْ تِهْتُمْ مَتَاهَ بَنِي إسْرَائِيلَ. وَلَعَمْرِي، لَيُضَعَّفَنَّ لَكُمُ التِّيهُ مِنْ بَعْدِي أَضْعَافاً، بِمَا خَلَّفْتُمُ الْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ، وَقَطَعْتُمُ الأدْنى، وَوَصَلْتُمُ الأبْعَدَ"([3]).
وهؤلاء وغيرهم ممن يتبعون الشيطان في سبيل السلطة والجاه، يقول عنهم أمير المؤمنين (عليه السلام): "اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لأَمْرِهِمْ مِلاكاً، وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً، فَبَاضَ وَفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ، وَدَبَّ وَدَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ، فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَنَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ، وزَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطَانُ فِي سُلْطَانِهِ، وَنَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِهِ"([4]).
فمن شأن الباطل أن يجعل من نفس الإنسان ظلاماً دامساً، ويزرع الحقد والحسد والنفاق والغيبة والنميمة فيها، بخلاف الحق الذي ينير دربها ويبدد ظلامها، وقد أشار إليها الإمام عَلِيّ (عليه السلام) فيما جاء عنه في نهج البلاغة بأنها سميت شبهة لأنها تشبه الحق من حيث الشكل يقول (عليه السلام):
"وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لأنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ"([5])
 ولذا يعظ الامام علي (ع) من يقع في الشبهة، أن ينتفع بالنّظر الفاحص في شواهد الأمور، يقول عليه السلام: "أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَنْتَفِعَ بِاللَّمْحِ الْبَاصِرِ مِنْ عِيَانِ الأُمُورِ، فَقَدْ سَلَكْتَ مَدَارِجَ أَسْلافِكَ بِادِّعَائِكَ الأَبَاطِيلَ وَاقْتِحَامِكَ غُرُورَ الْمَيْنِ وَالأَكَاذِيبِ"([6]).
لذلك كي لا يقع الإنسان بالباطل، عليه أن يتفحص مكامن الأمور، حتى يقف على ما فيها من حق وباطل، ثم يتبع الحق ويختاره فيما يعتقد به، ولقد أعطانا أمير المؤمنين تطبيقاً كاشفاً للحق، يسهل علينا -فيما إذا عملنا به- كشف جهة الحق، ومن ثمّ التزامها، فالحق: كما يراه الإمام علي (عليه السلام)، ليس بالرجال -كما يتراءى للبعض- عن طريق منطقهم، أو ما يحدثنا به التاريخ من سيرهم، ولكن الرجال يعرفون بالحق. روي أنّه (عليه السلام) قال لرجلٍ يوم الجمل حين أخبره عن حيرته وتردده لأي فريق يميل:
"يا حار انه الملبوس عليك، إن الحق لا يُعرف بالرجال، وإنّما الرّجال يعرفون بالحق، فاعرف الحق تعرف أهله، قلوا أو كثروا، واعرف الباطل تعرف أهله، قلوا أم كثروا"([7]).


[1] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٣ - الصفحة ٢٤٠.
[2] ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ١ - الصفحة ٢٦٩.
[3] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ٢ - الصفحة ٧٩.
[4] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١ - الصفحة ٢٢٨.
[5] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٢ - الصفحة ٢٩٨.
[6] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٨ - الصفحة ٢٢.
[7] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، قطب الدين الراوندي (ت: 573هـ)، تحقيق : السيد عبد اللطيف الكوهكمري، 1406 ، مط الخيام – قم، مكتبة آية الله المرعشي العامة – قم:3 / 374 .
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى