بلاغة الاستعارة في كلام الامام علي (ع)

2023.08.02 - 12:35
Facebook Share
طباعة

 تمثل الاستعارة حقلا واسعا من حقول البلاغة العربية، ومن المعلوم أنّ الاستعارة هي في الأصل تشبيه حذف فيه المشبّه به. وبلاغة الاستعارة تكمن في الإيجاز والإبداع والتوسّع في توظيف اللغة، والدلالات وحاجتها إلى التأمّل، والربط فيها بين الظواهر والأشياء التي تبدو في الظاهر متناقضة ومتضادّة وضخّ الحركة والحيويّة في التعبير الأدبي.

وقد توافرت كلّ تلك الخصائص والصفات في نهج البلاغة كأحسن ما يكون التوفّر؛ فلقد تمّ في استعاراته توظيفُ ظواهر الطبيعة الحيّة والمتحرّكة في خلق الصور، وإبداعها ابتداءً من الإنسان والحيوانات من مثل الجياد والجِمال، وحتى الحيوانات المفترسة والكائنات الحيّة الأخرى.
من الاستعارات المهمّة التي وردت في خطب نهج البلاغة قوله (عليه السلام) في خطبة يذكر فيها ابتداء خَلْق السماء والأرض وخَلْق آدم:
"ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا، وَأَدَامَ مُرَبَّهَا، وَأَعْصَفَ مَجْرَاها، وَأَبْعَدَ مَنْشَأهَا، فَأَمَرَها بِتَصْفِيقِ المَاءِ الزَّخَّارِ، وَإِثَارَةِ مَوْجِ البِحَارِ"([1]).
وتظهر الاستعارة في قوله (عليه السلام): (اعتقمَ مهبَّها)، فالاعتقام ليس للريح؛ لأنّه من (العُقْمُ، بالفتح والضم: هَزْمةٌ تقعُ في الرَّحِم فلا تَقْبَلُ الولدَ. وعَقُمَت إذا لم تَحْمِلْ فهي عَقِيمٌ)، والمهب وهو المنطلق الذي تنطلق منه الريح؛ وعند النظر إلى التقارب الموجود بين المرأة والريح في قصد الإمام (عليه السلام)، جعله يشبِّه الريح بالمرأة مستعيرًا إحدى صفات المرأة (عدم حملها) للريح من أجل الوصول إلى الغاية التي يقصدها المتكلم، ويريد إيصالها للمخاطب بالصورة التي يراها مناسبة للفهم، ووجه الشبه هي أن الريح العقيم، هي الخالية من السّحب التي تؤدي إلى نزول المطر، ومن ثم فهي لا تلقح سحاباً، ولا شجراً.
ومن مثل ذلك في قوله سلام الله عليه:
"وَاعْلَمُوا أَنَّ مَلاَحِظَ الْـمَنِيَّةِ نَحْوَكُمْ دَانِيَةٌ، وَكَأَنَّكُمْ بِمَخَالِبِهَا وَقَدْ نَشِبَتْ فِيكُمْ"([2])
فقد تجسّد في هذه الصور الخوف والرعب من الموت علي شكل حيوان مفترس فتّاك؛ حيوان وقع الإنسان بين مخالبه، فلا سبيل للفرار منه.
من جهة أخرى، فإنّ زمان الرحيل قد أزف وهنالك طريق طويل وصعب مستصعب يمتدّ أمام الإنسان، ولا سبيل أمامه لاجتيازه بسلام سوي أن يتزوّد بالتقوي وأن يقطع علائقه بالدنيا، كما يحدّثنا أمير المؤمنين عن ذلك في قوله:
"تجهّزوا رحمكم الله، فقد نودي فيكم بالرحيل، وأقلّوا العُرجة علي الدنيا، وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد، فإنّ أمامكم عقبة كؤوداً، ومنازل مخوفةً مهولة لابدّ من الورود عليها والوقوفِ عندها. واعلموا أنّ مَلاحظَ المنيّة نحوكم دانيةٌ بمخالبِها، وكأنّكم بمخالبِها وقد نشبت فيكم، وقد دهمتكم فيها مُفظعاتُ الأمور ومعضلات المحذور. فاقطعوا علائقَ الدنيا واستظهروا بزاد التقوى"([3]).
وكذلك في الخطبة الثامنة والثلاثين بعد المائة من نهج البلاغة، جسّد لنا أمير المؤمنين سلام الله عليه الحرب في مرّة صورة حيوان مفترس ضارٍ، وفي صورة ناقة مدرار، يبدو لبنها بادئ ذي بدء عذباً حلواً سائغاً شرابه، ولكن سرعان ما يشعر شاربه بمرارته، بل وبأثره السام، يقول (عليه السلام) في التحذير من الحرب وبيان عواقبها الوخيمة:
حتّى تقومَ الحربُ بكم على ساقٍ بادياً نواجذُها، مملوءةً أخلافُها، حُلواً رضاعُها، علقماً عاقبتُها"([4]).
يقول الباحث الاسلامي الشيخ جعفر عساف:
"نحن كما نعلم أن امير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي يزخر بهذه العلوم المتنوعة والكثيرة، فلابد أنّه يملك ذاكرة قوية، وقدرة هائلة على اختزان صور الناس، والطبيعة أخبار البشر وأوصاف الأشياء. وكانت دقة ملاحظته تجعله محيطاً إحاطة مدهشة بسمات الشيء الباطنية وايضاً الظاهرية. لاشك أننا نجد علياً (عليه السلام) كما هو كلماته وخطبه في نهج البلاغة أنه كان يتحدث عن الطبيعة بمضامينها الحية وما يتخلل هذه الطبيعة من قواعد ونواميس حياتية، وما يحكمها من ارادة خفية دقيقة التنظيم والصنع، ايضاً نجد علياً (عليه السلام) كانت قد تنوعت خطبه حول الزرع والحيوانات المختلفة كالخفاش والطاووس والنملة، في حديث وخطبة له يتحدث فيها عن الطاووس، يقول امير المؤمنين سلام الله عليه "يمشي مشي المرح المختال ويتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله فإذا رمى ببصره الى قوائمه زعق معولاً، وله في موقع العرف قنزعة خضراء موشاة ومخرج عنقه". ونختم بما ذكره امير المؤمنين علي (عليه السلام)، حول تكوين الجبال، يقول "وجبل جلاميدها، ونشوز متونها وأطوادها، فأرساها في مراسيها، وألزمها قرارتها، فمضت رؤوسها في الهواء، ورست أصولها في الماء، فأنهد جبالها عن سهولها، وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها، فأشهق قلالها، وأطال انشازها وجعلها للأرض عماداً".
فضلاً عن الاستعانة بمظاهر الطبيعة وموجوداتها في رسم الصور والاستعارات، فإننا نلاحظ توظيف أمير البلغاء (عليه السلام) لمظهر آخر من مظاهر الطبيعة، ألا وهو الألوان، من أجل تقديم صور استعاريّة زاهية بالألوان التي تحفل بها الطبيعة، والإمام (عليه السلام) خبير ضليع في مزج الألوان واستخدامها في صوره الاستعاريّة، بأشكال وأساليب مختلفة من مثل اللون الأخضر والأصفر، والأحمر والأبيض والأسود وغيرها؛ وعلى سبيل المثال، فإنّ اللون الأخضر يدلّ علي الكثرة والوفور والرزق والخصب، بل أنّ هذا اللون في الفكر الدينيّ هو رمز للخير والبركة، قال تعالي في محكم كتابه الكريم:
ألم ترَ أنّ اللهَ أنزلَ من السماءِ ماءً فتصبح الأرضُ مخضرَّةً"([5])
فها هو الإمام عليّ (عليه السلام) يوظّف هذا اللون مرّات عديدة، من مثل وصفه لجمال الطاووس في قوله :
"
لَهُ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ... يُخَيَّلُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ، وَشِدَّةِ بَرِيقِهِ، أَنَّ الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ"([6])
وقد يدلّ اللون الأخضر في استخدامات أخري له على النماء والحيويّة والانتشار، كما نلاحظ في قوله سلام الله عليه:
"وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَلَا اخْضَرَّ لِلْإِيمَانِ عُودٌ"([7]).
فاخضرار شجرة الدين في هذا التعبير، يمثّل صورة استعاريّة متحرّكة وناطقة لحياة الإيمان، وبقائه ودوامه وقوّته في القلوب لأن النّماء هو في النهاية قوّة للشيء واستحكام له .


[1] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ١ - الصفحة ١٨.
[2] نهج البلاغة – الخطبة 204.
[3] المرجع السابق.
[4] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ٢ - الصفحة ٢١.
[5] سورة الحج: الآية 63.
[6] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٩ - الصفحة ٢٧٣.
[7] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ١ - الصفحة ١٠٥.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى