العفوية في أقوال الامام علي (عليه السلام)

2023.08.02 - 12:34
Facebook Share
طباعة

 لم تعرف البطحاء، ولا أظلّت الخضراء من هو أفصح لساناً من مولانا أبي الحسن (عليه السلام)، فكأنّه أُشرب البيان مع لبن أمّه، فالكلمات تخرج من فيهِ طوعى، خاشعاتٍ تؤدين ما أمرها الله به، من إيصال المعاني البليغة إلى المتلقي في كلّ زمان ومكان، هذه الميزة التي امتاز بها بيان أمير المؤمنين -إضافةً إلى ميزاتٌ أخرى كثر- جعلت منه عليه السلام نموذجاً فريداً للدراسة على مدى العصور، يقول في ذلك الشريف الرضيّ في مقدّمة كتابه نهج البلاغة:

"كان أمير المؤمنين عليّ مَشْرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومَولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أُخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا، وتقدم وتأخّروا. وأمّا كلامه فهو البحر الذي لا يُساجَل، والجَمّ الذي لا يُحافَل... ومن عجائبه التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها أن كلامه رضي الله عنه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل، وفكّر فيه المتفكر، لم يعترضه الشك في أنه من كلام مَن لا حظَّ له في غير الزهادة، ولا شُغل له بغير العبادة، ولا يكاد يوقن بأنه كلامُ مَن ينغمس في الحرب مُصلِتاً سيفه فيقطُّ الرقاب، ويجدِّلُ الأبطال، ويعود به ينطُف دماً ويقطر مُهجاً"([1]).
وكلّ هذا إنّما يأتي عفواً، من غير تحضيرٍ أو تكلّف منه (عليه السلام)، بل كان يهدر بالكلام كسيل ينحدر من أعلى، لا يقف بوجهه شيء، دون أن يخرج عن حلمه وأناته، ودون تشعب في المواضيع، أو حيادٍ عن الهدف، موظّفاً أدواته في خدمة النصّ بأسلوبٍ يُعجز النّقاد وذوي الاختصاص، يقول أمير المؤمنين عن إحدى خطبه -التي تمّت مقاطعته فيها- حين سألوه أن يكمل: "إنّما هي شقشقة هدرت ثمّ قرّت"([2])، أي أنّها كلمات هدرت كغرغرة البعير حين خطمه وشكمه، هيهات أن تُعاد، أي أنها كلمات خرجت بوقتها عبّرت عن ألم أمير المؤمنين أرواحنا فداه، وحين قاطعوه، خرج من الحالة، ولا يمكن العودة إلى تلك الكلمات واستعادة الاسترسال الذي كان، وهذا دليل قاطع على عفويّة الخطاب عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، والخطبة المسماة بالشقشقيّة نسبة إلى شقشقته تلك هي من عيون الخُطب التي تبيّن مقام أمير المؤمنين وأحقيّته بالإمامة والخلافة.
ومن الأمثلة على العفويّة أيضاً، قوله عليه السلام، حين عُوتب في تسويته توزيع المال من بيت المسلمين بين الناس، دون الالتفات إلى أحسابهم وأنسابهم -كما كان يفعل من كان قبله- إذ قال: (وَالله مَا أطْور بهِ ما سَمر سَمِير)([3]). أي والله لا أقع في هذا الأمر أبد الآبدين.                                                   
يقول المثل: ما سمر سمير، أي طالما هناك من يسهر في ضوء القمر. فاستعارة أمير المؤمنين لهذا القول الدّارج مضمناً إياه في خطابه، لهو دليل على العفويّة في الخطاب، واستعمال كلّ الأدوات الدّارجة في الخطاب العربي، ولكن النتائج التي كانت تصدر عن ذلك مفحمة مبهرة.
فمن يستطيع أن يداني أبا الحسن في فنّ البيان؟ وهو سيّد الفصحاء والبلغاء. يصيغ من نفس الحروف التي نعرفها بياناً يُعجز السّامع، ويُبهت الكافر،وقال المسعودي المتوفى سنة (346هـ) في كتاب مروج الذهب ـ الجزء الثاني:
"والذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته، أربعمائة ونيّفٌ وثمانون خطبة، يوردها على البديهة، وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملا".
من الأمثلة أيضاً، على عفوية الخطاب عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، بعد وفاة رسول الله، جاء بعض الصّحابة إلى الإمام (عليه السلام)، وعرضوا عليه البيعة في مواجهة أبي بكر، فكان جواب أمير المؤمنين، مستعملاً للمثل الدّارج (بعد اللتيا والتي) ضمن كلامه:
"فإن أُقلْ يقولوا: حَرص على الملك، وإن اسكت يقولوا: جزع من الموت، هيهات بعد اللتيا والتي والله لابنُ أبي طالب آنسُ بالموت من الطفل بثدي أمّه"([4])
جاء جوابه مخاطباً محرّضيه: "هيهات بعد اللّتيا والتي"، وهيهات بمعنى بَعُدَ، فهي كلمة تبعيد واستحالة، ثمّ جاء استعمال الإمام علي (عليه السلام) للمثل، بعد كلمة هيهات موظفة توظيفاً كاملاً لفهمه الأمثل للمثل المضروب، لأن ما عرف عند العرب في معنى اللّتيا والتي، بأنهما الداهية الكبيرة والصغيرة، وكنى عن الكبيرة بلفظ التصغير، تشبيهاً بالحية، فإنها إذا كثر سمّها صغرت. واللّتيا تصغير التي، والصحيح قولهم بعد اللّتيا والتي، أي وصلتم إليّ، بعدما لقيت صغير المكاره وكبيرها.
فالخطاب موجّه إلى من كان سيرميه بالجزع، أو الجبن، بعدما ركب الشدائد، وقاسى المخاطر صغيرها وكبيرها في الذود عن الإسلام، فلا هابَ الموت يوماً، ولا جزع منه، وقوله هيهات، نفي لما عساهم يظنون به من جزع الموت عند سكوته عن المطالبة بالخلافة.
واستعمل الإمام علي (عليه السلام) الامثال العربية في مواطن أخرى من خطبه في نهج البلاغة، كقوله:
"وَقَدْ أرْعَدَوا وَأَبْرَقُوا، وَمَعَ هذَينِ الأَمْرَينِ الفَشَل، وَلَسْنا نُرْعِدُ حَتّى نوقع، وَلا نَسِيل حَتّى نَمطر"([5]).
"أرعدوا وابرقوا"، هي استعارة مكنية تخيّلية، مكني بها عن شدّة تهديدهم ووعيدهم، فشبّه (عليه السلام) الوعيد، وهو أمر عقلي بالرّعد والبرق، وهما من المحسوسات، وقول الإمام علي (عليه السلام) قصد به جماعة قامت لمحاربته، وهو مبني على قول المثل العربي (برق لمن لا يعرفك)، أي هدد من لا علم له بك فإن من عرفك لا يعبأ بك. أي أكثر وعيدك لمن لا يعرفك. لذا يصدق قول الإمام علي (عليه السلام) بحقهم: ومع هذين الأمرين الفشل، ولسنا نوعد حتى نوقع، ولا نسيل حتى نمطر. وهذا قول الحكماء وقول صاحب الحق الذي لا يماري، والواثق من نفسه.
فهذه الفصاحة المطلقة، لا تليق إلا بأمير المؤمنين، يهدر كلاماً بليغاً، عفوياً مبيناً، يوصل المعنى إلى سامعيه دون تكلّفٍ أو عناء، وكيف لا؟ وهو سيّد البطحاء، وإمام البلغاء.


[1] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ١ - الصفحة ١١.
[2] رسائل المرتضى - الشريف المرتضى - ج ٢ - الصفحة ١١٣.
[3] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ٢ - الصفحة ٧.
[4] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١ - الصفحة ٢١٣.
[5] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١ - الصفحة ٢٣٧.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى