حكمة أمير المؤمنين (عليه السلام) تتجلّى بأقواله

2023.07.27 - 10:21
Facebook Share
طباعة

 قال الله تعالى: {ومن يؤتَ الحكمةَ فقد أوتيَ خيراً كثيراً}([1])، فالحكمة هي أكثر أعطيات الله كمالاً، وأغبطها في قلوب أهل العرفان، وكم من امرئ أضاع كلّ عطيّات الله، فقط لأنّه لم يمتلك الحكمة الكافية للمحافظة عليها.

أمّا حكمة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهي أمر لا يختلف عليه اثنان، سواء ممن عاصروه، أو من اللاحقين. تتجلّى تلك الحكمة فيما أُثر عنه من حكم وأقوال وخطب، يتسابق النّاس في نشرها، ويتفاخرون بها، وهي في الحقيقة مدعاة للفخر بهذا التراث الإنساني والفكري الذي أرساه هذا الإمام العظيم في ضمير متبعيه، والبشريّة جمعاء.
فإذا نظرنا إلى قوله عليه السلام:
"فقد الأحبة غربة"([2])
فالغربة في نظر الجميع هي مفارقة الأوطان، ومن هنا جاءت تسميتها أصلاً، أنّه يتغرّب عن أرضه، فالإشارة إلى الجهة (الغرب)، هو تأكيد على الارتحال المكاني، غير أّن أمير المؤمنين وسّع مفهوم الغربة، وصححه، فالغريب إنّما يكون كذلك عندما يفقد أحبّته، فما ينفع المرء المكان من غير أحبّة فيه؟
فيالها من حكمة بالغة، وكيف لا؟ وأمير المؤمنين يقول:
"الحكمة ضالة المؤمن"([3])
ومن أكثر إيماناً من أمير المؤمنين؟ إيمانه الذي شقّ حجب الغيب، فلو اطّلع عليه، لما ازداد إيمانه، إيمانه الذي حمله للبروز لأشجع الفرسان غير هيّاب، ولا خائف، وهو الذي قال:
"إذا هبت أمراً فقع فيه، فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه"([4])
فالحكمة هي ألا تُهدر طاقتك في الهروب من المواجهة، فكم من امرئٍ أضاع حياته في الهروب من مخاوفه، فيما لو أنّه واجهها لربّما انتهى منها، أو لربّما استفاد منها.
بالطّبع لم يكن أمير المؤمنين (عليه السّلام) قوّالاً، إذ أننا نصادف في حياتنا الكثيرين ممن يدّعون الحكمة، غير أنّ حكمتهم لا تعدو عن كونها مجرّد أقوال فارغة، وهذا بعيد كلّ البعد عن شخصيّة أمير المؤمنين، فهو القائل:
 "المرء مخبوء تحت لسانه"([5])
فعليك إذا أردت اكتشاف صدق النوايا والأهداف عند أحدٍ ما، أن تتحرّى أقواله، وأن تراقب ما يطابق منها أعماله، وكذلك ما يُفلت من لسانه من مكنونات قلبه. لذلك فإنّه يؤكّد على هذه الفكرة بقوله:
"ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه"([6]).
أّما في المنطق، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام):
"ما اختلفت دعوتان إلاّ كانت إحداهما على ضلالة"([7])
فالأصل أنّ الحقّ واحد، لا يختلف عليه اثنان، فإذاً لا بدّ في حال الاختلاف من أن يكون أحد المختلفين على حق، والآخر على ضلال، فهذا هو منطق الأمور، وعلى العقلاء التحرّي عن هذا الحق ومناصرة صاحبه، ومجاهدة صاحب الباطل حتّى يعود عن ضلاله. أمّا الادّعاء بأنّ الاثنين اجتهدا، وأنّ كلاهما كان محقّاً، فهذا استخفاف بالعقول، ولا يخفى على أحد أنّ هذه البدعة إنّها يتمسّك بها أنصار أعداء أمير المؤمنين ليموّهوا على ضلال أصحابهم، حين واجهوا الإمام عليّاً في حروب، كان لها أسوأ الأثر في التاريخ الإسلامي، ومهّدت لشرخ كبير في الأمّة الإسلاميّة لم ينرتق حتّى اليوم.
ولا ننسى حكمته العظيمة في الحياة الإنسانيّة، والتي تعدّ من أهمّ النّصائح لمن يريد تجنّب المشاكل في حياته، وأن يعيش حياةً متوازنة ينصح بها خبراء التوعيّة النفسية، إذ يقول الإمام علي (عليه السلام):
"أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"([8]).
فالاعتدال، والتوازن هما جناحا الحياة الرّغيدة، فكم رأينا من حبيبين استحال حبّهما بغضاً، وحوّلا حياة كلّ منهما إلى جحيم لا يطاق بعد أوّل خلافٍ دبّ بينهما؟
أخيراً، يحضّنا أمير المؤمنين (عليه السلام)، من أجل الوصول إلى مجتمع رشيد، متكافل، أن نضع يدنا بيد ذوي المروءات، وأن نحصّنهم من العوز، فجهد هؤلاء منصبٌ دائماً لخدمة مجتمعاتهم، فإذا لقيت في مجتمع ما، أن أحوال هؤلاء صعبة، فاعلم أنّ هذا المجتمع يقوم على الاستغلال لا على التّكافل، يقول أمير المؤمنين:
"أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثر إلاّ ويده بيد الله ترفعه"([9]).
إذاً إذا أردت أن تشعر بيد الله معك، عليك أن تضع يدك بيد هؤلاء.
ما أعظم حكمتك يا مولاي، وما أمضى حجّتك، فها نحن بعد رحيلك عنّا بألفٍ وأربعمائة عام، ما زلنا نتعلّم مما تركت لنا دروساً بليغة، فأي النّاس مثلنا، حظي بمعلمٍ كأمير المؤمنين؟


[1] سورة البقرة: الآية 269.
[2] بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧١ - الصفحة ١٧٨.
[3] ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ١ - الصفحة ٦٧١.
[4] 177 - شرح نهج البلاغة ج18 ـ ابن أبي الحديد.
[5] ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ٤ - الصفحة ٢٧٧٦.
[6] 26 - شرح نهج البلاغة ج18 ـ ابن أبي الحديد.
[7] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٨ - الصفحة ٣٦٧.
[8] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ٤ - الصفحة ٦٤.
[9] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ٤ - الصفحة ٦.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى