الامام علي عليه السلام يوم حنين

2022.04.24 - 11:15
Facebook Share
طباعة

 بعد الفتح المبين لمكّة، شعر مشركو العرب أنّهم خذلوا قريشاً وتركوها وحدها تواجه محمّداً، خاصّة أنّ الرّسول حطّم أصنام العرب جميعها التي كانت في الحرم الشريف وداخل الكعبة، فتنادت هوازن وثقيف لحربه ثأراً لآلهتها المهينة، وحشروا ما استطاعوا من رجال وأمدّتهم حلفاءهم بآلافٍ مؤلّفة من المقاتلين بقيادة مالك بن عوف النّصري. وزحفوا في ثلاثين ألفاً إلى مكّة يريدون تحريرها من المسلمين.

أمرهم مالك هذا بأن يساق مع الناس أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم، ليقاتل كلّ أمرئ عن نفسه وماله وأهله، فيكون أشدّ لحربه. فسار بهم حتّى بلغوا وادٍ يُدعى أوطاس، وكان فيهم دُرَيد بن الصِمّة فارس العرب وزعيم بني جشم، وكان قد بلغ من العمر عتيّاً وذهب بصره وانحنى ظهره. كان دريد صاحب رأي وتدبير وله معرفة بالحروب، فاجتمع الناس إليه، فسألهم: "في أي وادٍ أنتم؟"، قالوا: "بأوطاس". قال: "نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس[1]". ثم قال: "مالي أسمع رُغاء البعير وخوار البقر ونهاق الحمير وثغاء الشاء وبكاء الصغير؟"، فقيل له: "ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم ليقاتل كلّ أمريء عن نفسه وماله وأهله فيكون أشدّ لحربه". فقال دريد: "راعي ضأن وربّ الكعبة ماله وللحرب؟"،ثم قال: "أين مالك؟ فدعي له". فقال: "يا مالك إنّك أصبحت رئيس قومك وإنك تقاتل رجلاً كريماً، وأن هذا اليوم له ما بعده من الأيام، ثم مالي أسمع رُغاء البعير وخوار البقر ونهاق الحمير وغثاء الشاء وبكاء الصغير؟"، فقال مالك: "قد سقت مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأردت أن أجعل خلف كلّ رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم". قال دريد: "راعي ضأن واللّه، وهل يردّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك الاّ رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك". ثم قال دريد: "ما فعلت كعب وكلاب؟"،قالوا: "لم يشهدها منهم أحد"، فقال: "غاب الجدّ والجَد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟" فقالوا: "عمرو بن عامر وعوف بن عامر". قال: "ذلك الجذعان لا ينفعان ولا يضران[2]".
تجمّعت عدّة قبائل أخرى في أوطاس حين علمت العرب نيّة هوازن بحرب الرّسول انتقاماً لآلهتهم، فاجتمع عددٌ كبير من الرّجال يقدّر بثلاثين ألفاً، وهو جيش لم يسبق للجزيرة العربيّة أن شهدت مثله.
خروج الرّسول من مكّة:
علم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأحوال معسكر هوازن عن طريق بعض عيونه التي أرسلها لتحسس حالهم، فاستخار الله وخرج إليهم في اثني عشر ألف مقاتل في العاشر من شوال في السنة الثامنة للهجرة في عشرة آلاف من جيش المهاجرين والأنصار الذين فتح بهم مكّة قبل أيّام، وانضمّ إليهم ألفان من أهل مكّة الذين دخلوا في الإسلام حديثاً، فكان خروجهم من مكّة مهيباً عظيماً، أدخل العُجب والغرور إلى قلوب بعض أصحاب الرّسول، حتّى أنّ أحد الصّحابة قال للرسول صلى الله عليه وسلّم: "لن نُغلب اليوم من قلّة". قال الله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}[3].
سار النّبيّ بأصحابه ومن خرج معه من المكيين حتّى نزل في حنين، وبدأ بتنظيم صفوف الجيش، فأعطى اللواء لعليّ، وأمّر أبا سفيان على المكيين الذين التحقوا بجيش المسلمين.
الخديعة الكبرى:
لم يكن أبو سفيان ذاك المؤمن بالنّبي ودينه، إنما كان رجلاً براغماتيّاً يراعي مصالحه ومصالح قومه، وهذا الأمر لم يكن خافياً على معسكر المشركين، فأشار دريد بن الصّمة على عوف بن عامر أن يُرسل إلى أبي سفيان، وأن يخبره بأن يخذّل المسلمين بمن معه وأن ينسحبوا أوّل القتال، مع ما لذلك الأمر من تشتيت للمسلمين وإرعابهم، وإعطاء فرصة لجيش المشركين كيّ ينقضّوا على قلب الجيش فيقضوا على محمّد وتنتهي المعركة قبل أن تبدأ. تردد أبو سفيان أوّل الأمر، غير أنّ دريداً طلب من المبعوث أن يهمس في أذن أبي سفيان بكلام لا يعلمه إلا دريد وأبو سفيان وقلّة من زعماء أهل الجاهليّة. إنّه عهد جاهلي قديم كان زعماء القبائل العربيّة يتعهّدون فيه بنصرة بعضهم البعض في أوقات الحروب، فامتثل أبو سفيان للعهد القديم ووعد بتنفيذ ما طُلب منه، لكنّه أبلغ المبعوث بأنّه ومن معه لن يشتركوا في قتال محمّد والمسلمين مهما كان الأمر، وأنّ هذه مهمّة هوازن ومن معها وحدهم.
في اليوم التّالي، بادر أبو سفيان إلى الطّلب من النّبيّ كي يتقدّم هو ورجاله جيش المسلمين حاملاً لواء المكيين. نظر الرّسول إلى الامام عليّ عليه السلام والعباس، فأبديا عدم ارتياحهما لطرح أبي سفيان، غير أنّ الرّسول وافق على ذلك، وأوصى الامام علي عليه السلام أن يبقى متيقظاً في قلب الجيش لأيّ طارئ يستجدّ.
الكمين:
عندما بلغ ابن الصّمة أنّ أبا سفيان يقرؤه السّلام، وقد التزم بعهد الجاهليّة بشرط ألا يبادر هو زمن معه محمّداً وصحبه بقتال، أشار على عوف بن عامر أن يكمنوا لجيش المسلمين في أحد المضايق المؤديّة إلى أوطاس، وأن يفاجئوهم بهجوم كاسح لا يصمد أمامه أحد، خاصّة وأن أبا سفيان سينسحب من مقدّمة الجيش فاراً مما سيحدث البلبلة في صفوف المسلمين الذين سيغلبهم الفزع الذي سيشيعه فرار المكيين، وسينكشف قلب جيش الرسول، وعندها سيتم النّصر لهوازن على محمّد ومن معه، وسيظفرون به لا محالة إمّا قتيلاً أو أسيراً.
 الموقعة:
كَمِنت هوازن للمسلمين في مضيق لا بدّ لجيش المسلمين من المرور عبره للوصول إلى أوطاس، فاستعدت بما لديها من القوة والعتاد لمفاجأة المسلمين ومواجهتهم على حين غفلة، من حيث لا يتوقعون.
كان الوقت بعيد الفجر، والطّريق الضيّق معتم لمروره بين تليّن عظيمين، وبعدما مرّت طلائع كتائب أبي سفيان، أغارت هوازن وثقيف على مقدّمة جيش المسلمين بحسب الاتفاق، فكان الفرار السّريع للمكيين، يصرخون برعبٍ ويخوّفون المسلمين من ورائهم. وقعت البلبلة في صفوف المسلمين، فهربوا تاركين الرّسول وسط الميدان وقد أحاطت به كتائب الأعداء من كلّ جانب، وهو في رهطٍ من بني هاشم يقودهم الامام عليّ بن أبي طالب عليه السلام يستميتون في الدّفاع عن رسول الله. العبّاس بن عبد المطّلب وابنه الفضل، وأبناء الحارث بن عبد المطّلب الثلاثة أبو سفيان ونوفل وربيعة، وأبناء أبي لهب الإثنين عتبة ومعتب، وعبد الله بن الزّبير بن عبد المطلب[4]، وعلي بن أبي طالب على رأسهم والرّسول صلى الله عليه وسلّم في وسطهم.
شدّ الفرسان والرّجالة على العصابة من بني عبد المطلب يريدون قتل النّبي، فثبتوا واستبسلوا في ردّ المهاجمين حتّى أكثروا فيهم القتل، وعلي يحصد رؤوس القوم في كلّ اتّجاه، ويقاتل بين يدي رسول الله قتالاً ما عرفت العرب مثله.
شماتة أبي سفيان ومن معه:
حين انكشف المسلمون عن رسول الله، وأيقن أبو سفيان من نجاح الخطّة المرسومة بحنكة دريد بن الصّمة، بدأ يصيح وينادي بأعلى صوته مخذّلاً المسلمين عن نصرة الرّسول، متيحاً المجال لهوازن وثقيف كي تُجهز على الرّسول ومن معه. صاح أبو سفيان: "لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته[5]". وصرخ كلدة بن الحنبل: "ألا بطل السّحر اليوم[6]". وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الذي قتل أبوه يوم أحد: "اليوم أدرك ثأري من محمد"[7].
ضاع وسط تلك المعمعة تركيز المسلمين، وتاهوا في الوادي كلّ يبحث عن ملجأ ينجيه من هجوم هوازن وثقيف، وتركوا رسولهم خلفهم لا يلوون على شيء.
صمود رسول الله ومن معه في الميدان:
كان استبسال تلك الجماعة من بني هاشم غريباً على المهاجمين، إذ ليس من المعقول أن يردّ نفرٌ من الجند كتائب كاملة مستنفرة بكامل عددها وعتادها، غير أنّ بني هاشم لهم صيتهم وتاريخهم في السّاحات، وفتاهم الكرار وسطهم يجندل من يصل إلى رسول الله بسرعة البرق، فقتل الامام عليّ عليه السلام حامل لواء هوازن، وألحق به العشرات من صناديد هوازن وثقيف[8]، حتّى كثر القتلى في صفوف المهاجمين فخافوا وأحجموا عن الهجوم لبعض الوقت، استغلّ الرّسول تلك البطولة لعلي ومن معه، وصاح في القوم محذّراً: "أنا النّبيّ لا كذب، أنا بن عبد المطلب[9]"، فوقعت المهابة في نفوسهم وابتعدوا أكثر. حينها أمر رسول الله عمّه العباس أن ينادي بأعلى صوته على أهل السّمرة[10]، ففعل.
ردّة الأنصار ومن وراءهم المهاجرين للقتال:
عاد الأنصار عودة الماء إذا ارتطمت بالحصى، والرّسول يتابع النّداء: "أنا النّبي لا كذب... أنا ابن عبد المطّلب". ثمّ أنزل الله قوله تعالى في الامام عليّ عليه السلام والذين ثبتوا معه: ﴿ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ[11]﴾.
قاتل المسلمون قتالاً باسلاً بين يدي رسول الله، فانكشف المشركون أمامهم كغيم تزجيه الرياح، وكتب الله النّصر لرسوله والمسلمين.
بعد انتهاء القتال لم يعاقب رسول الله أحداً من الذين انسحبوا وفرّوا من القتال، بل أنعم على المكيين بالكثير من الغنائم التي غنمها المسلمون، فلمّا أحسّ الرّسول ما في صدور الأنصار والمهاجرين من الحزن لكونه خصّ حديثي الإسلام والمؤلّفة قلوبهم بأغلب الفيء، جمعهم وطيّب خاطرهم قائلاً: "أما ترضون برسول الله غنيمةً؟"، فهللوا وكبروا فرحاً واستبشاراً[12].
مرّة أخرى يكون سيف الامام علي عليه السلام هو الحامي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، ربّما يخاف المرء في ساعةٍ كتلك، ويطلب النّجاة، إلا الامام عليّ عليه السلام فهو من يوم الفراش باع نفسه لله في سبيل نجاة الرّسول وإكمال الدّعوة، إنّه الفدائيّ الأوّل بين يدي رسول، يقف بوجه جيوش وحده، بقلب لا يخالطه وجل ولا خوف، قلب خلق لاستيعاب نور الرّسالة أكبر من جبروت بني البشر وطغيانهم.

 


[1] أي أنّه ليس فيه وعورة ولا أرض طرية تحت أقدام المقاتلين.
[2] يقصد بذلك أنّ بني عمرو وبني عامر لا ينفعان من غير بني كعب وبني كلاب، كما لا ينفع الجذع من غير الرأس من الجسد.
[3] التوبة الآية 25.
[4] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 62؛ الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 1، ص 386.
[5] يعني أن هزيمة النّبي ومن معه من أصحاب ستصل حتّى البحر، أي لن يبقى لهم أثر في الصّحراء.
[6] أي زال سحر محمّد.
[7] ابن هشام، السيرة النبوية، ج 4، ص 86 - 87.
[8] الكليني، أصول الكافي، ج 8، ص 376؛ الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 1، ص 387.اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 63؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 263 .
[9] تاريخ الطّبري، والواقدي، كتاب المغازي، ج 3، ص 898 - 899.
[10] وهي البيعة الأولى للأنصار لرسول الله يوم أتوه إلى مكّة وبايعوه على النّصرة.
[11] التوبة الآية 29.
[12] ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 2، ص 152-156.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى