عليّ عليه السّلام يوم فتح مكّة
إنّها السنة الثامنة للهجرة. كيف لسنواتٍ ثمانٍ أن تغيّر كلّ شيء؟ فالذي خرج من مكّة ضعيفاً طريداً يتخفّى نهاراً ويسير ليلاً، ها هو الآن يهدد أبا سفيان سيّد قريش بأنّه سيزحف على مكّة بجيشٍ لا قبل لهم به، رافضاً كلّ الذرائع التي ساقها الرّجل لتبرير نقض قريش لبنود صلح الحديبيّة، بعد أن امتنع كبار الصّحابة عن التشفّع له عند الرّسول، حتّى ابنته أم حبيبة زوج النبيّ لم تتركه يجلس على فراش النّبي صلى الله عليه وسلّم حين استأذن الرّسول ليطمئن إليها قائلةً لأبيها: "أنت نجس"[1]. أيّ خذلان حلّ بسادة قريش؟ وأيّ نهايةٍ مذلّة حلّت بالشّرك وأهله؟ يومها عاد إلى مكّة يحمل خيبته متفكّراً لو أنّه وقومه احتضنوا هذا النبيّ وسادوا معه البطحاء بمبادئه السّامية، ولما كان وقع السّيف بين الأخوة وأبناء العمومة، ولكن لا ينفع النّدم الآن. ماذا سيقول لهند؟ وهي التي لا تعرف العفو ولا المغفرة بعد أن أطاح بنو هاشم بأخيها وأبيها وعمّها بيوم واحد في بدر؟ هي التي تحمل بين جوانحها نقمة العالم على محمّد وقومه كلّهم، فأبو سفيان لم ينس بعد شقّها لبطن الحمزة بن عبد المطّلب يوم أحد بعد تمثيلها بوجهه الشّريف، وكيف أنّها لاكت كبده! هي حادثة لم تحصل في تاريخ العرب أبداً، لكنّها هند بنت عتبة التي يحسب القاصي والدّاني لها ألف حساب، فكيف سيفاتحها بما يجول في خلده؟ وأنّه حان وقت الاستسلام لتلك القوّة الغامضة التي تدعم محمداً ومن معه.
نقض قريش للصّلح:
دخل عمرو بن سالم الخزاعي معجلاً مدينة رسول الله في وفد مهيب من سادة خزاعة، وكانوا من قبل قد دخلوا في حلف رسول الله واحتموا بحماه بعد صلح الحديبيّة، وصل عمرو إلى مسجد رسول الله، شاكياً غدر بني الدؤل بهم، بدعمٍ ونصرة من قريش، وأنّهم أخذوهم غيلة غير سائلين عن حماية الرّسول وعهده لخزاعة بالنّصرة، فأنشد يقول:
يـا رب إنـي نـاشـدٌ مـحمدًا حـــلف أبينا وأبيه الأتـلدا
قـد كنتم وُلدًا، وكنا والدًا[2] ثُمت أسلـمنـا فلم ننزع يداً
فانصر -هداك الله- نصرًا أعتد اًوادع عباد الله يأتوا مـدداً
فـيهـم رسـول الله قـد تـجردا إن سيم خسفاً وجهه تـربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدًا إن قريشًا أخلفوك الموعدا
ونـقضـوا ميـثاقك المـؤكدا وجـعلوا لي في كَدَاءِ رُصَّداً
وزعـمـوا أن لست أدعو أحداً وهـــــــــم أذل وأقـــل عدداً
هم بيـتـونـا بالوتير هجّداً وقــــــتلـونا ركَّـعـاً وسُـجَّداً
فتأثّر الرّسول بما قاله عمرو أيّما تأثّر، وقال: "نُصرت والله يا عمرو[3]" فكبّر المسلمون وضجّت المدينة بالتّهليل.
استعداد المسلمين للخروج:
اجتمع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش عظيم قوامه عشرة آلاف مقاتل، فخرج باتّجاه مكّة بسريّة تامّة، داعياً: "اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة ولا يسمعوا بنا إلا فجأة[4]". خرج الجيش من المدينة في العاشر من رمضان في السنة الثامنة للهجرة الشريفة، وسار حتّى نزل بالظّهران، وهو وادٍ شمال مكّة. هناك أمر الرّسول الصحابة بأن يوقد كلّ رجل منهم ناراً، فرأت عيون قريش على حين غرّة ناراً عظيمة تنبئهم أنّ جيشاً جراراً سيصبحهم، فهالهم الأمر وأُسقط في أيديهم، وطلبوا العباس بن عبد المطّلب كي يرسلوه شفيعاً لهم إلى ابن أخيه محمّد، لكنّهم فوجئوا أنّ العباس قد سبقهم والتحق بابن أخيه مسلماً، فلم يبق لهم غير أبي سفيان سيّد مكّة. رفض أبو سفيان بدايةً هذه المهمّة لعلمه بتصميم النّبي على فتح مكّة بعدما رفض شفاعته سابقاً. لكنّه رضخ أخيراً حين سمع صراخ النّسوة وبكاء الأطفال جزعاً وخوفاً مما سيحل بهم، وهم الذين ساموا محمّداً وصحبه مرّ العذاب وسقوهم من كأس الموت، وسخروا من دين الله وأهله. فخرج أبو سفيان ومعه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قاصداً معسكر الرّسول صلى الله عليه وسلّم، فلمّا رأى نارهم العظيمة وكثرة عددهم قال: "ما رأيت كهذه ناراً قط"، فكان أوّل من استقبل أبا سفيان العباس بن عبد المطلب قائلاً: "واصباح قريش والله[5]، فاستمهلوا حتّى أستأمنه لكم". فلمّا دخلوا على رسول الله، وإلى جواره وزيره عليّ بن أبي طالب، قال النّبي: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟[6]"، فقال أبو سفيان خانعاً مكسور الجناح: "بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني بعد[7]"، فوثب عليّ إلى سيفه يريد قتله، فثناه النّبي عن ذلك، وقال غاضباً: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟"، قال أبو سفيان وهو ينظر إلى الإمام عليّ برهبة: "بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا"، فقال له العباس: "ويحك أسلم قبل أن نضرب عنقك"، فشهد شهادة الحق فأسلم. قال العباس: "يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا"، قال رسول الله: "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن"، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله لعمّه العباس: "يا عمّ، ابقه في ضيافتك الليلة، واحبسه غداً بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها". في صبيحة اليوم التّالي فعل العباس ما أمره به النّبي، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال أبو سفيان: "يا عباس من هذه؟"، فيجيب العباس: "بني غفار"، فيقول أبو سفيان: "ما لي ولغفار"، ثم تمر به القبيلة فيسأل: "يا عباس من هؤلاء؟"، فيجيب العباس: "بني سُليم" فيقول أبو سفيان: "ما لي ولسليم"، ثم تمر به القبائل التي في جيش النّبيّ واحدةً تلو الأخرى وأبو سفيان يردد، مالي ولمزينة، مالي ولجهينة، مالي ولكنانة، مالي ولأشجع، مالي وللمهاجرين والأنصار، وهكذا حتّى مرّ الرّسول في كتيبته الخضراء من فرسان بني هاشم يتقدّمهم أسد الله الغالب عليّ بن أبي طالب، فقال أبو سفيان: "أمّا هؤلاء فما لأحد قِبلٌ ولا طاقة[8]"، ثم قال: "والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيمًا"، فقال العباس: "يا أبا سفيان إنها النبوة".
ط أبو سفيان راحلته إلى مكّة مسرعًا، ودخلها قبل جيش المسلمين بسويعات قليلة بعد الفجر، وشرع بالنّداء بأعلى صوته: "يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم بما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: «اقتلوا الحميث الدسم الأحمس، قُبّح من طليعة قوم[9]"، قال أبو سفيان لمن اجتمع في ساحة داره: "ويلكم! لا تغرنكم هذه من أنفسكم؛ فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، فقالوا: "قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟"، فقال: "ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن"، وتفرق الناس إلى دورهم وإلى بيت الله.
دخول مكّة:
دخل جيش المسلمين مكّة من أبوابها الأربعة، فضيّع بذلك الرّسول الفرصة على المشركين لتجميع قوّاتهم والتّصدّي للمسلمين، فباغتهم فأصبحوا مستسلمين بعدما راعهم ما رأوه من تفوّق المسلمين بالعدد والعدّة وتنظيمهم الدّخول كجيش فاتح لدولة عُظمى، غير أنّ صفوان بن أميّة وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وجماعة من أوباش قريش قرروا القتال رغم ذلك، فنزلوا في مكانٍ في مكّة يسمّى الخندمة، فكمنوا لجيش المسلمين، فلقيهم المسلمون هناك بقيادة خالد بن الوليد، فشتتوا شملهم وقتلوا منهم اثني عشر رجلاً، فانهزموا صاغرين، وكان فيهم حماس بن خالد الدؤلي الكناني، الذي أنشد قائلاً، متهكّماً على قادة قريش:
إنّك لو شهدت يوم الخندمة إذ فرّ صفوانُ وفرّ عكرمة
التقت كتائب المسلمين في منطقة الحجون في مكّة[10]، وانتظرت القوّات المظفّرة دخول النّبي المدينة في كتيبته المهيبة، وأخيراً دخل النّبي مكّة من أعلاها ووصل إلى قواتّه المرابطة داخلها، وقريش تنظر إلى هذا القائد المظّفر الذي بدأ دعوته مع صبيّ وامرأة ورجل، وها هو اليوم يمتلك القرار في مكّة والمدينة وما حولهما.
دخل النّبي صلى الله عليه وسلّم المدينة وعليه عمامة سوداء، وعليّ على يمينه والعباس على شماله، خافضاً رأسه تواضعاً لله لما أنعم عليه من الفتح المبين. كان لسانه يلهج بترداد سورة الفتح المباركة وقلبه عامر بالبشر والانشراح، فها هي مكّة التي غادرها مستضعفاً طريداً، يدخلها اليوم فاتحاً منصوراً، وقد ذُلّ أكابرها ومرّغت أنوفهم بالتّراب وهم الذين استأسدوا عليه واستضعفوه. كم تمنّى لو أنّ قريشاً آوته ونصرته وأعانته على أمره هذا بدلاً من قتاله لعشرين سنة دون كلل، لكنّهم استكبروا وطغوا وعتوا عن أمر ربّهم، فسامهم الله هذا الذّل.
كانت أصوات المسلمين تتردد في جنبات مكّة: "الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده وهزم الأحزاب وحده"، صوت مهيب زلزل أركان المشركين، ووصل إلى الحرم، فكانت قلوب المسلمين تخفق لهذا النّصر والتأييد من الله لجنده، وقد وصلت بيارق المسلمين لبيت الله. لقد كان هذا حلماً غير قابل للتّصديق قبل وقتٍ قصير فقط.
دخل النّبي المسجد الحرام واستلم الحجر الأسود أولاً، ثمّ طاف بالبيت ومن حوله خاصّة أهله وصحابته، وما ان انتهى حتّى توجّه إلى الأصنام التي في المسجد وحوله، يطعنها بقوسه فتنهار بين يديه وهو يردد: "وقل جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً[11]"،
ثمّ نادى عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحها ودخلها وكان فيها رسوم وتماثيل فحطّم النّبي الأصنام وأزال الرّسوم عن جدران الكعبة، ثم أشار رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى عليّ كي يصل إلى صنمٍ لهبل عالٍ داخل الكعبة، فانثنى الرّسول أمام علي فاعتلاه الإمام، لينهض به رسول الله حتّى وصل إلى الصّنم فألقاه على أرض الكعبة والكلّ يكبّر[12]. يقول أمير المؤمنين عليّ في تلك الحادثة، أنّه على كتفي رسول الله لوشاء أن يبلغ أعنان السّماء لطالها، واحتجّ أيضاً بتلك الحادثة يوم شورى الستّة بعد مقتل الخليفة عمر بن الخطّاب، فهذه المكرمة لم تكن لأحد من المسلمين سوى لعلي قائلاً: "نَشدتُكم بالله هل فيكم أحد حمله رسول الله على ظهره حتى كسر الأصنام على باب الكعبة غيري؟"، فقالوا: لا[13]".
ثمّ نادى الرّسول بأهل مكّة أن يجتمعوا في باحة الحرم، فحُشروا صاغرين وقلوبهم لدى حناجرهم من الخوف من انتقام محمد. صاح بهم الرّسول: "ما تظنّون أنّي فاعل بكم؟"، فأجابه القوم مسترحمين: "أخ كريم وابن أخ كريم"، فقال رسول الرّحمة كلمته الشّهيرة: "اذهبوا فأنتم الطّلقاء!". حررهم من ذنوبهم السابقة ولم يعاملهم بالثأر والانتقام، هناك أبطل الرّسول شريعة الجاهليّة، وأرّخ لعالم جديد قوامه الإنسانيّة والرّحمة. لم يكره أحداً على دخول الإسلام ولم يقتلهم على شركهم، بل ترك الخيار لمن خسر المعركة، فأيّ دينٍ عظيمٍ هذا؟ وكم نفتقد في أيّامنا لحلم النّبي وبأس عليّ.
[1] ابن الأثير، أسد الغابة، ص 1519
.
[2] مشيراً إلى القرابة خؤولتهم لقصي بن كلاب جدّ الرّسول لأن أمّه كانت من خزاعة.
[3] سيرة ابن هشام، ج 4، ص 44.
[5] أي ويل قريش من صبيحة يومها القادم.
[6] شرح نهج البلاغة لأبي الحديد المعتزلي، ص 518-520.
[7] معناه أنّه كان يظنّ أن الآلهة الأخرى ستردّ عنه هذا الذلّ حتّى السّاعة.
[8] لا أحد يقدر على قتال هؤلاء الفرسان.
[9] وتقصد اقتلوا هذا السمين الأبله
[12] النّسائي، مناقب أمير المؤمنين. تهذيب الآثار لابن جرير، والحاكم في مستدركه، وكثيرون إلى حدّ التواتر.
[13] الاحتجاج للطبرسي ج1 ص 138، حلية الأبرار، ج 2 ص 239. بحار الأنوار للمجلسي، ج 31، ص 334، ص 379.