الأديب والمفكّر جورج جرداق والامام (عليه السلام) -3-

2020.08.24 - 10:08
Facebook Share
طباعة

كيف تعرف جرداق على الإمام؟ ولماذا أحبه كل هذا الحب وأعطاه كل هذه المنزلة وكتب عنه كل هذه الصفحات؟ متى كانت البداية؟ وما هي أطوارها؟
 
بدأت علاقة جرداق بالإمام منذ وقت مبكر، وبقيت هذه المعرفة وتواصلت وتجددت ولم تنقطع أو تتوقف، ويمكن تصنيف هذه المعرفة وتحديدها في ثلاثة مراحل أساسية:
 
1-    مرحلة الطفولة:
عرف جورج جرداق الطّفل الإمام عليّ (عليه السلام) من خلال شقيقة الأكبر، الشاعر فؤاد جرداق الذي كان مولعاً بكتاب (نهج البلاغة)، فقرأ في الكتاب لغةً قويّة جزلى، لم يعتد على مثلها، إضافة إلى تراكيب بيانيّة متماسكة، لها دلالات عظيمة، قلّما تناولتها النّصوص العربيّة القديمة التي كانت تتراوح بين الفخر والغزل والنصوص الدينيّة المحضة. سحر عجيب شدّه لهذا الكتاب المشحون بالقوّة والبلاغة، فتكرر هروب التلميذ جورج من المدرسة ليذهب ويجلس بين أشجار وينابيع منطقته مرجعيون الواقعة في أقصى الجنوب اللبناني، ليختلي بنهج البلاغة. يقرأه وينهل من بلاغته، ولطالما حصل على التوبيخ من إدارة المدرسة، ومن ذويه في آنٍ معاً بسبب هروبه المتكرر، ولكن كان هذا الأمر سلوة الطّفل التي لا تعدلها لذّة أخرى. وما إن بلغ الثالثة عشرة من عمره، حتى كان يحفظ غيبًا الكثير من (نهج البلاغة)، وظلت هذه المحفوظات مخزونة في ذاكرته، لم تتلاش رغم مرور الزّمن، بل كانت السبب في تراكم مخزون لغوي لفظيّ عظيم كان ركيزته الأساسيّة في كلّ ما كتبه خلال سني عمره اللاحقة. تعزّز هذا المنحى عند جرداق وترسخ نتيجة المشاهد السمعية والبصرية المتكرّرة التي كانت تمر عليه في بيت أسرته، إذ كان يسمع ويشاهد ويصغي لشقيقه فؤاد وهو ينشر على مسامع زوار البيت قصائده الكثيرة حول الإمام، التي تتناول عبقريّته وسموّ فكره وعظمته الإنسانية إلى جانب الحديث عن سيرته المشرفة، ورأى أيضاً ذاك التبجيل الجمّ لشخصيّة الإمام من والده مهندس البناء وهو ينحت بيده كلمات الإمام على الحجر. هذه المواقف والمشاهد رسمت في مخيّلة جرداق صورة أولية لرجل عظيم بقيت في ذاكرته، ترسّخت وتعاظمت مع مرور الأيام. وعلينا ألا ننسى أيضاً، أنّ البيئة الجنوبيّة المحيطة كلّها تقدّس هذه الشخصيّة العظيمة، فكان يحرص في المواسم على الاستماع للخطب والمنابر التي تمجّد شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام، فكبر جورج وحبّ الإمام راسخ في وجدانه رسوخ الجبال.
2-    مرحلة الشباب:
حين انتقل جرداق إلى بيروت لمتابعة دراسته ملتحقًا بالكلية البطريركية سنة 1949، كان من اساتذته من كتب في نهج البلاغة وفي عبقرية الامام. وقد مثّلت الدراسة في الكليّة محطّة مهمّة في سيرة جرداق وفي تطور وتبلور تجربته الفكرية والأدبية.
 
 
3-    مرحلة النّضوج الفكري:
بعد تخرجه من الكلية مارس جرداق -إلى جانب الكتابة- التدريس في بعض معاهد بيروت سنة 1953، ملتزما بمادتيّ الأدب العربي والفلسفة. من خلال هاتين المادتين جدّد جرداق علاقته بالإمام. إذ وجد حسب البرنامج المقرر أن نتاج الإمام الأدبي والفكري مطلوب في هاتين المادتين، عندها رأى أن ما كان يحتفظ به منذ طفولته من خواطر ومشاعر غير كافٍ للإحاطة بما هو مطلوب منه لإجادة إعطاء المقرر للطّلاب، الأمر الذي حفّزه على الاطلاع من جديد على سيرة الإمام وميراثه الأدبي والفكري. وبدافع التدريس وتعميق المعرفة شرع جرداق بقراءة ما كُتب عن الإمام في مؤلفات السّابقين والمعاصرين، فخرج بانطباعات ما كانت مرضية له، ولم يجد فيها ما كان يطمح إليه، ورأى أن عليًّا أكبر وأعظم مما جاء في هذه الكتب، فهي لا تقدمه إلى الفكر الإنساني عامة، وإلى الناس كافّة، ولم تنصفه كما ينبغي. إذ تبيّن لجرداق بعد مطالعة هذه المؤلفات، أن معظمها يدور حول أمور تاريخية محدودة بزمان ومكان معينين، قد تعني فئة من الناس في بعض مراحل التاريخ ولا تعني جميع الناس في كل الأزمنة، وأكثرها يدور حول حقّ الإمام في الخلافة، ومقدار هذا الحق في نظر المؤلفين، ورأى أن لكل من هؤلاء المؤلفين دوافع تحرّكه، ولا علاقة متينة لها بالموضوعيّة التي تدور في نطاق الفكر العلويّ، وبنظرة الإمام إلى معنى الوجود ونواميسه الثابتة، ولشروط الحياة التي لا بدّ من إجرائها في المجتمع الإنساني ليكون مجتمعًا سليمًا في تكوينه، معافى في مسيرته، كريمًا في غايته.
 
على ضوء هذا الانطباع ارتأى جرداق العودة من جديد إلى (نهج البلاغة)، متلمّسًا قراءته قراءة واعية، تكون أوفى بالمراد من قراءته القديمة في سنّه المبكر. حين قرأه من جديد تبيّن له أن الإمام أعمق وأعظم من كل ما دارت حوله أبحاث الكتّاب والباحثين، قدامى ومحدثين، ووجد -بخلاف هؤلاء- أنّ إنسانيّة الإمام بكلّ عناصرها ودعائمها، تنبثق من فكر صافٍ وشعور عميق بمعنى الوجود الحقيقي، وأن ما دعا إليه بمبادئه وسيرته يتجاوز حدود الزمان والمكان إلى كل زمان ومكان.
 
من هنا قرّر جرداق أن يخوض المعركة بنفسه، وبدافع من حبّه للحقيقة، وأن يضع كتابًا موسوعيًّا عن الإمام، يقدّم فيه بعض الإحاطة بهذه الشخصية العظيمة، وبعض الإنصاف بعيداً عن السيّاسة وتسجيل النّقاط والتخصيص والتعميم. فاستدراك ما أهمله المؤلفون قبله، حتّى جاء كتابه مشعّاً بعنوانه، بليغاً ببيانه، مدهشاً بحقائقه، متجليّاً بإنسانيّته. إنّه العمل الأحبّ على قلب جرداق من بين كل مؤلفاته، والألصق بأعماقه.
 
 
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى