الأديب والمفكّر جورج جرداق والامام (عليه السلام) -2-

2020.08.24 - 10:06
Facebook Share
طباعة

لا شكّ بان الامام علي بن ابي طالب قد تعرّض للظلم في زمانه، فبدل أنّ يقدّسه المسلمون حاربوه، بل وقتلوه، فهل يا تُرى يستطيع الادباء أن ينصفوه؟ ربّما أحبّه الكثيرون، لكنّه لم يحظَ بعدُ بالحبِّ المكافئ لمقامه، فما زال هناك من يُزوّر الحقائق الدّامغة ليضعف روايةً هنا، ويبطل حديثاً هناك في فضل أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولأنّ الشعر هو الدّعامة الكبرى للأدب، ولأنّ الشعراء لا يهتمّون بالأسانيد والتراجم وعلوم الجرح والتعديل، فيحق لهم ما لا يحقّ لغيرهم. من هنا انطلق جورج جرداق ليسبغ على شعره ونثره نوراً من فيض أنوار المؤمنين. لم يأبه لديانة، ولا لطائفة، ولا لمحب ولا لمبغض، فقد غمره نور محبّة الإمام، فانطلق يسطّر
موسوعة (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) المكوّنة من خمسة أجزاء، تعملق بها، فطال السّحاب.
 لكأنّما جورج جرداق صائد كنوز، ولكأنّ فلسفة الإمام كنز مخفيّ لم يكتشفه الكثيرون ممن مرّوا على ظواهر أمير المؤمنين (عليه السلام)، ففاتتهم بواطنه. إذ اعتبر جرداق أن أحداً لم ينتبه الى ما في فكر الإمام من إنسانيّة جديدة على الفكر الإنساني عموماً والعربي خصوصاً. فكرٌ بعيد جدا عن العصبيّة القبائلية، والعشائرية الطائفية، فجديرٌ إذا بمفكرٍ مسيحيّ أن يتصدّى لفكر الامام عليّ بن ابي طالب، أحد أبرز رموز الإسلام، ليُظهر للعالم أجمع أنّ فكر عليّ لا يختصّ بأحد، بل هو تراث عالميّ إنسانيّ يجب أن يأخذ نصيبه من التمجيد، والتعظيم.
 
ولدت الاجزاء الخمسة التي كتبها عاشق الامام جورج جرداق ما بين أواخر الخمسينات ومطلع ستينات القرن العشرين، وضم لها المؤلِف لاحقا جزءًا سادسًا بعنوان (روائع نهج البلاغة(. ومما قيل في جورج جرداق أنّه طرق أبوابًا جديدة لم يسبقه إليها أحد تقريبًا لا قبله ولا بعده، خارجًا بذلك عن النّسق المألوف، متخطيًّا ما كان سائدًا، فهو أول من خاض في قضايا من قبيل العلاقة بين الإمام علي وحقوق الإنسان، والعلاقة بين الإمام والثورة الفرنسية، وكذلك العلاقة مع الفيلسوف اليوناني الشهير سقراط (470-399 ق.م). وقد فتح جرداق بما كتبه أبوابا فكريّة كانت مغلقة قبله، مقدمًا إسهامًا فكريًّا جادًّا ومهمًّا بات يمثّل مرجعًا لا غنى عنه لمن يبحث في فلسفة الامام.
 
وقد وجد جرداق أنّ الحديث عن الامام مرتبط دوماً بالأحداث التاريخيّة، فأراد أن يفك هذا الحصار عن الإمام مقتحمًا عالم أمير المؤمنين المخفي والمغيّب، مبينا -في أسبقيّة خاصّة تُحسب له- انه قد سبق بأربعة عشر قرناً فكر الاصلاحيين المسمى بالفكر الانساني الحديث.أقدم جرداق على هذه الخطوة منطلقًا من قناعة راسخة ترى أن الإمام ليس للشيعة، ولا للمسلمين، أو المسيحيين، وإنما هو للإنسانية كافّة، وأنّ الإمام ليس لعصر من العصور الإنسانية فحسب، وإنما لكل العصور الممتدة من الأزمنة القديمة إلى هذه الأزمنة الحديثة وما بعدها.
 
ولولا هذا المنظور الإنساني العام الذي اكتشفه جرداق في شخصية الإمام وفكره وأدبه، لما أولاه كل هذا الاهتمام الذي تجلى في كتابه الموسوعيّ، مدوّنًا أكثر من ألف صفحة، ولما تعلّق به كل هذا التعلق الذي بقي مستمرًّا ولم ينقطع منذ عرفه صغيرًا، وظل معه، حتّى عُرف باسم عاشق الإمام، وهو الوصف الذي اختارته صحيفة النهار اللبنانية لنعيه عند رحيله.
 
فالإمام عند جرداق هو عملاق الضّمير الإنسانيّ، أحد العبقرياّت الكبرى في التاريخ، ومن آباء الإنسانيّة الكبار، ومن هنا جاء التسميّة "صوت العدالة الإنسانية "عنوانًا لكتابه الكبير.
 
إنّ أسلوب جرداق في موسوعته عن الإمام جاء مغايراً للأسلوب الذي دأب عليه المفكرون والأدباء في تناولهم لسيرة الإمام الحافلة، لذلك رأى الأديب اللبناني مخائيل نعيمة 1889-1988م، (أن كتاب جرداق، احتوى على اجتهادات جديدة في تفسير بعض الأحداث التي رافقت حياة الإمام، تفسيرًا يغاير النمط الذي درج عليه مؤرخوه حتى اليوم). فإقحام التاريخ الأوروبي في سيرة عليّ، في الجزء الثاني من موسوعته عند الحديث عن عليّ والثورة الفرنسية، والحديث الموسّع عن تاريخ الإنسانيات القديمة والمتوسطة والحديثة وتطورّها في أوروبا حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم في النهوض بقضايا العدالة، والحريات وحقوق الإنسان، إنّما هو حديث بعيد كلّ البعد عمّا تناوله أغلب كتّاب سيرة أمير المؤمنين، أو الدائرين بفلك التصنيف والتأليف في فضائله. فما لعليّ بن أبي طالب والثورة الفرنسيّة؟ لولا أنّ جرداق أثبت بالدّليل والبرهان أنّ ما دعت اليه الثورة الفرنسية ومفكروها، إنّما هو مستقى -بقصد أو بغير قصد- من فكر الإمام (عليه السلام) بعد أن سبقهم اليه بـ 11 قرنا من الزمان.
 
قال الأديب اللبناني الشيخ سليمان ظاهر (1873-1960)، عن الموسوعة: "لا نغالي إذا قلنا إن هذا الكتاب من خيرة إنتاج الفكر العربي واللبناني في مختلف العصور، وحسبه ميزة عن كل ما كتب في موضوعه قديمًا وحديثًا، من عصر الجاحظ وابن أبي الحديد وميثم البحراني ومن لا يحصى بعدهم، أنه الكتاب الوحيد بين مئات الكتب المؤلفة في حياة الإمام العظيمة الذي يدهشك، إن للمؤلف الحكيم في دراسته العميقة هذه، قيمًا يبرز بها على كل من تناول هذا البحث من علماء العرب وحكمائهم على اختلاف الملل والنحل قديمًا وحديثًا، ومن علماء الفرنجة المعروفة دراستهم بدقه النظر".
 
وأشاد به كذلك العالم اللبناني الشيخ محمد جواد مغنية (1905-1979) متحدثًا عنه مرّات عدّة، إذ كتب عنه قائلًا: "قرأت هذا السفر مرارًا كثيرة ولا أزال، فشعرت وأنا أقرؤه أني اكتشفت كنزًا فوق الكنوز مجتمعة، فلقد كتب السلف والخلف عن شخصية الإمام، ولا يسعك إلَّا أن تقف موقف التّواضع والإكبار مما كتبوا وألفوا، ولكن أين كل ما كتبه الأولون والآخرون، بما فيهم عباس محمود العقاد وطه حسين، مما كتبه الأديب اللبناني الشاب الأستاذ جرداق، الذي يدهشك بسحر البيان، وقوة العلم، وعظمة الفن، حتى يستولي عليك ويسيطر على عقلك وشعورك فلا تعود تشعر إلَّا بالكاتب والكتاب. إن قلمي ليعجز عن وصف هذا الكتاب العظيم والسِّفر الخالد، كما يعجز عن بلوغ الثناء على مؤلفه كما يليق بفنه الأصيل، وعلمه الغزير، وفهمه العميق".
 
تناغمًا مع هذا المنحى جاء انطباع المؤرخ اللبناني السيد حسن الأمين (1908-2002)، الذي كتب عن صديقه جرداق قائلًا: "إن أول ما يروعك من كتاب الإمام علي هو هذا البيان القوي المتدفّق الأصيل، الذي يضع جورج جرداق في القمّة بين أدباء العربية، وحين تُوغِل في الكتاب يُخيّل إليك أن أحدًا من المفكرين لم يكتب عن عليّ قبل اليوم، وأن كتابًا قبل هذا الكتاب لم يُوضع عن ابن أبي طالب، وإلَّا فأين كانت هذه الصور المشرقة التي جلَّاها قلم جورج جرداق المبدع الخلَّاق، وأين كانت هذه الكنوز الخبيئة التي كشف عنها بيان جرداق الساحر؟".
 
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى