نهج البلاغة انعكاس الوحي

2022.02.26 - 10:02
Facebook Share
طباعة

ربّما لم يحظَ كتابٌ إنسانيّ في التاريخ، بالدراسة والاهتمام، كما حظي كتاب "نهج البلاغة"، هذا الكتاب الذي حيّر ألباب العلماء، وتيّم فلوب العارفين، واجتمعت عليه أهل ملل شتّى، وتحاججت به كلّ الشرائع. كتاب وصفه البعض بأنّه ظل القرآن، وآخرون تبحرّوا فيه رغم أنّهم ليسوا بمسلمين، فصار ترديد خطبه البليغة وليجتهم ومدخلهم إلى عالم الأنوار العلويّة.
قد يقول قائل: "أنّ بلاغة هذا الكتاب قد تستهوي القدماء، ولكنّها بالتأكيد لا تستهوي المتأخّرين من العلماء"، لذا سنستعرض معكم رأي ثلّة من هؤلاء العلماء المتأخرّين:
-الشيخ محمد عبده:
 لا يخفى اسم الشيخ محمد عبده على أحد، فهو أحد مفكّري الأمّة العربيّة الأفذاذ، وروّاد الحركة الإصلاحيّة. وصل إلى رتبة مفتي الديار المصرية، وأسس مع العلامة جمال الدين الأفغاني في باريس مجلّة "العروة الوثقى". في منفاه بعيداً عن الوطن ازدادت معرفته بكتاب (نهج البلاغة)، وجرّته هذه المعرفة إلى الشوق، إلى أن يشرح هذه الصحيفة المقدسة وينشرها بشرحه بين شباب أمته. يقول الإمام محمد عبده في مقدمة كتابه شرح نهج البلاغة، مصوراً مدى بلاغة أمير المؤمنين ودقّة وصفه، ومقدرته على الإتيان بالشيء ونقيضه في آن معاً، دون أن يؤثر ذلك على القيمة البلاغيّة للنص: "طورا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة[1]، وأنياب كاشره، وأرواح في أشباح النمور، ومخالب النسور. قد تحفزت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخدت الخواطر دون رماها، واغتالت فاسد الأهواء وباطل الآراء. وأحيانا كنت أشهد أن عقلا نورانيا، لا يشبه خلقا جسدانيا، فصل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى. ونما به إلى مشهد النور الأجلى. وسكن به إلى عمار جانب التقديس. بعد استخلاصه من شوائب التلبيس[2]، وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمة، يعرّفهم مواقع الصّواب، ويبصّرهم مواضع الارتياب ويحذّرهم مزالق الاضطراب، ويرشدهم إلى دقاق السيّاسة، ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم إلى منصات الرئاسة ويصعدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير".
ثمّ يقول العلامة محمّد عبده في وصف الكتاب، وتبيان وقيمته العلميّة والتأريخيّة: "ذلك الكتاب الجليل، هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. جمع متفرقه، وسماه بهذا الاسم (نهج البلاغة) ولا أعلم اسما أليق بالدلالة على معناه منه. وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه اسمه، ولا أن آتي بشيء في بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار، كما سترى في مقدمة الكتاب. ولولا أن غرائز الجبلة، وقواضي الذّمة، تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه، وشكر المحسن على إحسانه، لما احتجنا إلى التنبيه على ما أودع نهج للبلاغة، من فنون الفصاحة، وما خصّ به من وجوه البلاغة، خصوصاً وهو لم يترك غرضاً من أغراض الكلام إلا أسابه[3]، ولم يدع للفكر ممرا إلا جابه[4]".
-الدكتور علي الجندي:
 رئيس كلية العلوم بجامعة القاهرة في مقدمة كتاب (سجع الحمام في حكم الإمام عليه السلام)، كتب على نثر الإمام (ع) يقول: "في هذا الكلام موسيقى موقعة تأخذ القلب أخذا، وفيه من السجع المنتظم ما يصوغه شعرا"، ثم ينقل في كتابه عن قدامة بن جعفر أنه كان يقول: "جلت طائفة في القصار وطائفة في الطوال. أما عليّ فقد بزّ أهل الكلام جميعا في القصار والطوال وفي سائر الفضائل
 - الدكتور طه حسين:
يروي عميد الأدب العربي، في كتابه (عليّ وبنوه) خبر الرجل الذي تردد في يوم الجمل في أمر علي (ع) وطلحة والزبير وعائشة، يقول في نفسه: كيف يمكن أن يكون مثل طلحة والزبير وعائشة على الخطأ وشكا شكه ذلك إلى الإمام علي (ع) وسأله: "أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟"، فقال (ع): "إنك لملبوس عليك، إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، أعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله".
يعني إنك في ضلال بعيد، إذ أنك قلبت في قلبك بشكك هذا مقاييس الأمور، فبدل أن تجعل الحق والباطل مقياسا لعظمة الأفراد أو عدمها، جعلت العظمة المزعومة مقياسا لمعرفة الحق والباطل، أردت أن تعرف الحق بمعرفة أقدار الرجال كلا، بل أقلب هذا المقياس، فابدأ بمعرفة الحق وحينئذ تعرف أهله، واعرف الباطل وحينئذ تعرف أهله، وحينئذ لا تبالي من يكون إلى جانب الحق أو الباطل، ولا ترتاب من أقدار الرجال. فهذا أبلغ خطاب، يمكن أن يسمعه المرء ويتعلّم منه، فيقول طه حسين: "ما أعرف جوابا أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحدا مهما نكن منزلته، ولا يحتكر الحق لأحد مهما تكن مكانته، بعد أن سكت الوصي وانقطع خبر السماء".
 
- أمير البيان شكيب أرسلان:
من كتّاب العرب البارزين في هذا العصر، لقّب بأمير البيان لمقدرته العظيمة في الصياغة الأدبيّة. له قصّة طريفة مع بلاغة الإمام عليّ (عليه السلام). يُحكى أنّه زار مصر في الثلاثينيّات من القرن المنصرم، فأقيم له حفلٌ تكريمي. في الحفل قام عريف الاحتفال بتقديمه على المنصّة قائلاً: "رجلان في التاريخ يستحقان أن يلقبا بلقب: أمير البيان: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وشكيب أرسلان". فما كان من شكيب ارسلان إلا أن توجّه إلى المنصّة غاضبا، وعاتب العريف على تلك المقارنة بينه وبين الإمام (ع)، قائلاً: "أين أنا، وأين علي بن أبي طالب أنا لا أعد نفسي شسع نعل لعلي".
 
.
- ميخائيل نعيمة:
 كتب الكاتب والفيلسوف اللبناني ميخائيل نعيمة في مقدمة كتاب، (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)، يقول: "بطولات الإمام ما اقتصرت يوما على ميادين الحرب، فقد كان بطلاً في صفاء رأيه، وطهارة وجدانه، وسرح بيانه، وعمق إنسانيّته، وحرارة إيمانه، وسموّ دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم، من الحارم والظالم، وتعبّده للحق أينما تجلى له الحق". ثمّ يقول بعد ذلك: "وهذا الكتاب الذي بين يديك خير شاهد على ما أقول، فهو يكرّس لحياة عظيم من عظماء البشرية، أنبتته أرض عربية، ولكنها ما استأثرت به. وفجرّ ينابيع مواهبه الإسلام، ولكنه ما كان للإسلام وحده، وإلا فكيف لحياته الفذة أن تلهب روح كاتب مسيحي في لبنان، وفي العام 1956، فيتصدى لها بالدرس والتمحيص والتحليل، ويتغنى تغني الشاعر المتيم بمفاتنها ومآثرها وبطولاتها؟".
- محمود مصطفى العقاد:
يقول الكاتب والفيلسوف الكبير محمود العقاد في كتابه عبقريّة عليّ عن نهج البلاغة: "إن نهج البلاغة عين متدفقة بآيات التوحيد والحكمة الإلهية التي توسع معارف الباحثين في العقائد والتوحيد والمعارف الإلهية".
- الكاتب والأديب محمد النووي:
 "إنّه الكتاب الذي جعله الله حجة واضحة وقد ضمنه عليّ عليه السلام الأمثال القرآنية والحكم الربانية بفصاحة وبلاغة قل نظيرها".
- العلامة الخوئي رحمه الله:
يقول العلامة في وصف كلام أمير المؤمنين في نهج البلاغة: "حين يرد الإمام (عليه السلام) بحثاً في خطبه من نهج البلاغة، فانه لا يترك مجالاً بعده للحديث، حتى يخيل لأولئك الذين لا علم لهم بسيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قضى عمره في ذلك الموضوع بحثاً وتمحيصاً".
- العلامة السيّد الرضي:
يقول العلامة في بلاغة أمير المؤمنين في كتاب نهج البلاغة: "إنّ هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله بكل كلام لمال به راجحاً وبرز عليه سابقاً".
نكتفي بإيراد هذه الطائفة من أقوال المفكّرين والأدباء في كتاب نهج البلاغة، وبلاغته التي فاقت حدّ الإجادة لتصل إلى مصاف الإعجاز، إنّه الإمام عليّ، باب العلوم الدنيويّة والأخرويّة، وصيّ رسول ربّ العالمين، وأخاه، ووزيره، ومستودع سرّه، فإذا نطق تزلزل البيان، وتململت قلوب الوالهين من شدّة وقع الكلمات، إنّه البلاغة المتجسّدة، وظلّ الوحي، وانعكاس آيات الكتاب على قلب طاهر سليم.
 
 

 



[1]عابسة.
[2] الغش والتدليس؟
[3] فصّل فيه.
[4] أبحر فيه.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى