عدل أمير المؤمنين (ع)

2021.11.30 - 03:01
Facebook Share
طباعة

 من عناصر الإمام الذاتية، إقامة العدل وإيثاره على كلّ شيء، خصوصاً في أيام خلافته، فقد تجرّد عن جميع المحسوبيات، وآثر رضا الله تعالى ومصلحة الأمّة على كلّ شيء، فهو بحقّ صوت العدالة الإنسانية، ورائد نهضتها الإصلاحية في جميع الأحقاب والآباد. وروى المؤرّخون صوراً رائعة من عدله تبهر العقول، وتجعله طغراء شرف للعالم العربي والإسلامي، وكان من ضروب عدله ما يلي :

١ ـ وفد عقيل على الإمام في الكوفة، فرحّب به الإمام وقال لولده الإمام الحسن (عليه‌ السلام) : اكس عمّك. فكساه قميصاً ورداءً من ملكه، ولمّا حضر العشاء، قدّم له خبزاً وملحاً، فأنكر عقيل ذلك وقال: ليس ما أرى؟

لقد أراد عقيل أن تقدّم له مائدة شهيَّة حافلة بألوان الطعام، فأجابه الإمام بلطف وهدوء: أوليس هذا من نعمة الله؟ فله الحمد كثيراً. وفقد عقيل إهابه، وضاقت عليه الأرض، فقال للإمام: أعطني ما أقضي به ديني، وعجّل سراحي حتى أرحل عنك. كم دينك يا أبا يزيد؟

قال: مائة ألف درهم. والله ما هي عندي ولا أملكها، ولكن اصبر حتّى يخرج عطائي فاواسيكه، ولولا أنّه لا بدّ للعيال من شيء، لأعطيتك كلّه .

وخاطب عقيل الإمام بعنف قائلاً: بيت المال بيدك، وأنت تسوّفني إلى عطائك، وكم عطاؤك؟ وما عسى أن يكون، ولو أعطيتنيه كلّه؟ وضاق الإمام ذرعاً من عقيل، فطرح أمامه حكم الإسلام قائلاً: وما أنا وأنت فيه- أي في العطاء من بيت المال - إلاّ بمنزلة رجل من المسلمين. وكان الإمام مطلاً على صناديق التجّار في السوق، فقال لعقيل: إن أبيت يا أبا يزيد ما أقول، فانزل إلى بعض هذه الصّناديق، فاكسر أقفاله وخذ ما فيه. وتوهَّم عقيل أنّها من أموال الدّولة، فقال للإمام: ما في هذه الصناديق؟ فيها أموال التّجار. فأنكر عقيل وراح يقول بألم ومرارة: أتأمرني أن أكسر صناديق قوم توكَّلوا على الله وجعلوا فيها أموالهم؟

فردّ عليه الإمام قائلاً: أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين، فأعطيك أموالهم، وقد توكّلوا على الله وأقفلوا عليها، وإن شئت أخذت سيفك وأخذت سيفي، وخرجنا جميعاً إلى الحيرة، فإنّ فيها تجّاراً مياسير، فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله.

والتاع عقيل وراح يقول بألم: أوسارقاً جئت؟

فأجابه رائد العدالة الإسلاميّة قائلاً: تسرق من واحد خير من أن تسرق من المسلمين جميعاً. ولم يجد عقيل منفذاً يسلك فيه، فقد سدّ عليه الإمام جميع النوافذ، وصيّره أمام العدل الصارم الّذي لا يستجيب لأيّ عاطفة، ولا ينصاع إلاّ إلى الحقّ. وراح عقيل يقول بحرارة اليأس: أتأذن لي أن أخرج إلى معاوية؟

فقال (عليه السلام): أذنت لك .

فقال: أعنّي على سفري.

فأمر الإمام ولده الزكيّ الإمام الحسن (عليه‌ السلام) بإعطائه أربعمائة درهم نفقة له، فخرج عقيل وهو يقول :

سيغنيني الّذي أغناك عنّي ويقضي ديننا ربّ قريب

لقد تجرَّد الإمام من جميع المحسوبيات، فلم يقم لها أيّ وزن، وأخلص للحقّ والعدل كأعظم ما يكون الإخلاص، فالقريب والبعيد سواء في ميزانه. لقد احتاط كأشدّ ما يكون الاحتياط في أموال الدولة، فلم يؤثر بشيء منها نفسه وأهل بيته، وحمّل نفسه رهقاً وشدّة.

٢ ـ ومن صنوف عدله الباهر، أنّه نزل ضيف عند الإمام الحسن (عليه‌ السلام)، فاستقرض رطلاً من العسل من قنبر خازن بيت المال، فلمّا قام الإمام بتقسيم العسل على المسلمين، وجد زقّاً منها ناقصاً، فسأل قنبر عن ذلك، فأخبره بالأمر، فاستدعى ولده الإمام الحسن، وقال له بنبرات تقطر غيظاً: ما حملك على أن تأخذ منه قبل القسمة؟ أليس لنا فيه حقّ، فإذا أخذناه رددناه إليه؟ وسكن غضب الإمام، فقال لولده الزكيّ بلطف: فداك أبوك، وإن كان لك فيه حقّ، فليس لك أن تنتفع بحقّك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم. ثمّ دفع إلى قنبر درهماً وقال له: اشتر به أجود عسل تقدر عليه، فاشترى قنبر العسل، ووضعه الإمام في الزقّ وشدّه.

هذا هو العدل الذي جعله الإمام (عليه‌ السلام) أساساً لدولته ليسير عليها حكّام المسلمين من بعده، إلاّ أنّهم شذّوا وابتعدوا عن سيرته وناقضوه، فأنفقوا أموال المسلمين على شهواتهم وملذّاتهم، وأسرفوا في ذلك إلى حدّ بعيد.

٣ ـ جيء له بمال من أصفهان، فقسّمه أسباعاً على أهل الكوفة، ووجد فيها رغيفاً، فكسره سبعة كسر، وقسّمه على أهل الأسباع؛ إنّ العدل بجميع رحابه ومفاهيمه من العناصر الذاتيّة للإمام (عليه‌ السلام).

٤ ـ روى هارون بن عنترة عن أبيه قال: رأيت عليّاً في يوم مورود أو نوروز، فجاء قنبر فأخذ بيده وقال: يا أمير المؤمنين، إنّك رجل لا تبقي شيئاً لنفسك ولا لأهل بيتك، وإنّ لأهل بيتك في هذا المال نصيباً، وقد خبّأت لك خبيئة. قال الإمام: وما هي؟ قال: انطلق وانظر ما هي؟ فأدخله بيتاً مملوءاً آنية من ذهب وفضّة مموَّهة بالذهب، فلمّا رآها، تميّز غيظاً وغضباً، وقال بشدّة وصراحة لقنبر: ثكلتك أمّك، لقد أردت أن تدخل بيتي ناراً عظيمة، ثمّ جعل يزنها ويعطي كلّ عريف حصّته، ثمّ قال :

هذا جناي وخياره فيه وكلّ جان يده إلى فيه

أرأيتم هذا العدل الذي مثّله الإمام في أيام خلافته؟ أرأيتم هذا التجرّد عن الدنيا والتنكّر لمنافعها؟ أرأيتم كيف احتاط إمام المتّقين بأموال الدّولة ولم يستأثر بأيّ شيء منها؟ إنّ الإنسانيّة على ما جرّبت من تجارب في ميادين الحاكمين، فإنّها لم تشاهد مثل الإمام (عليه‌ السلام) في عدله ونكرانه للذّات وتبنّيه للعدل بجميع رحابه ومفاهيمه.

*من "موسوعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب"،ج1.

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى