الامام علي عليه السلام يوم أحد

معركة أحد

2020.09.24 - 08:41
Facebook Share
طباعة

قريش بعد بدر:
اُثخنت قريشٌ بالجراح، وضُرب العزاء في كلّ بيت. نواحٌ وتفجّع على الأهل والأحبّة، ووعدٌ بالثأر من المسلمين يتردد في جنبات مكّة. كلٌّ يعرف غريمه. غير أنّ اسم الامام علي عليه السلام تكرر على لسان الجميع، كلٌّ يريد الثأر منه، فقد أثكل كلّ بيتٍ في قريش. النّقمة على محمّد ومن معه وصلت ذروتها. كابوس لا ينقطع منذ عقدٍ من الزّمن يقضّ مضاجع قريش، لينتهي بهزيمة قريش النّكراء تلك. وحيٌّ يتنزّل على رجل منهم حوّل حياتهم الهانئة إلى جحيم، كيف يؤمنون بإلهٍ واحدٍ؟ وآلهتهم الثلاثمائة والستون ماذا يفعلون بها؟ وقد عهدت إليهم قبائل العرب أجمعها أصنام ألهتم يرعونها في بيت الله العتيق. أين مكانة قريش بين العرب إذا استجابت لهذا الرّسول المزعوم؟ لا رُجعة الآن وقد نشب السيف بينه وبين قريش، وجرت أنهار الدّم في أرض بدر تؤرّخ ليومٍ أسود في تاريخها لن تنساه أبداً، ولن يهنأ لها بال قبل أن تردّ لمحمدٍ ما سقاها، وتقضي عليه وعلى سحره للأبد.
رغم أن صورة أبي سفيان اهتزّت في قريش بعدما نجا بقافلته بينما قُتل سادتها في بدر، غير أنّ ما من أحدٍ غيره كان مؤهلاً لاستلام الزّعامة وقد قُتل الجميع، وتمّ إقصاء بني عبد المطّلب عن الأمر منذ وفاة أبي طالب، وكيف يُسيّدون عليهم أقرباء غريمهم؟ لذا فإنّ أولى مهام أبي سفيان كانت استعادة هيبة قريش وتحصيل ثأرها من محمد، فكان ديدنه حشد الحلفاء ليوم الثأر، وتجميع الموتورين من أهالي الضحايا وقبائلهم العديدة للزّحف على المدينة وإفناء أهلها.
لم تنم هندُ في فراش أبي سفيان منذ وقعة بدر، وهي التي كانت خسارتها مثلّثة. أبوها وأخوها وعمّها في يوم واحد، وبسيف بني هاشم. غير أنّها قبيل الزّحف على المدينة، وتجهّز جيش قريش أحسّت بالرّضا عن زوجها، ففكّت حزنها وأولمت لقادة جيش قريش في بيتها، ورقصت لهم بإيحاءاتٍ تحفّزهم على الثأر، واسترجاع كرامتهم ورجولتهم التي اجتثّها محمّد في بدر. في تلك الوليمة رقص عبدٌ حبشيّ أسود، لا يعرف قلبه الرّحمة، له معالم وحش، واسمه وحشيّ. هو مولى جبير بن طعيمة بن عدي، وله رمية حربة لا تثنّى، كان يرمي بها الظّباء في الصّيد فلا تخيب له رمية، وقد رمى ليلتها الحربة أمام قادة قريش معصوب العينين، فأبهرهم ببراعته التي لا يضاهيه بها أحد من الفرسان. التمعت عينا هند بالرّغبة في الانتقام، فاقتربت من وحشيّ هذا وقالت له: "سأعتقك، وسأعطيك وزنك فضّة، وألبسك الحرير مقابل رميةٍ كهذه"، لم تكن معالم وحشي لتتغيّر، وهو الذي قدّ من صخر. غير أنّ سيّده جبير أجاب عنه متسائلاً: "ومن سيطعن بحربته؟"، فاستدارت هند إلى جبير وعيناها لا تكادان ترفّان عن وحشي وجسده البرونزي الذي يلتمع تحت نار الأسرجة المضاءة، ثم أجابت جبيراً: "عليّ قاتل أبيك، وأبي، وأخي وعمّي"، تهلل وجه جبير وقال: "أبشري، فوالله إنّي معتقه إن هو قتله، لكن!"، رفعت هند حاجبها مستغربة وقالت: "لكن ماذا؟"، فأجاب جبير متأسّفاً: "لقد رأيت الامام عليّ عليه السلام في الميدان، فواللاة ما يفوته شيء، كأن له ألف عين، وما أظنّ وحشيّاً بقادر أن يسدد له حربة وإن من بعيد"، عاودت هند سؤاله متهكّمة عليه: "أليس عليّ رجلاً مثلك؟!"، فأجاب جبير: "بلى، ولكن كما أخبرتك يا هند، لقد رآه الجميع في الميدان، فوالله لو لم نفرّ من أمامه لأفنانا عن آخرنا وحده". لم تقتنع هند بكلام جبير، فرفعت حاجبها استعلاءً عليه، غير أنّه عاجلها بالقول: "غير أنّ عندي ما يثلج صدرك ويحصّل ثأرك"، فقالت معجلة: "قل ما عندك"، فقال: "ما رأيك أن نقتل الحمزة بن عبد المطّلب". أعادها الاسم عشرين عاماً للوراء، حين كانت صبيّة تترقّب عودة الحمزة من رحلات الصّيد كي تسلّم عليه وتغويه بحسنها وجمالها. كانت عاشقة له حتّى الثمالة، وكانت تتمنى أن يكون زوجها بدلاً من أبي سفيان. كم حاولت أن تستهوي الحمزة، وكم وسّطت أخته صفيّة كي تعلمه بحبها له، غير أنّ الحمزة لم يكن ليُغرم بفتاةٍ متعجرفةٍ مثلها، فلم يعطها بالاً حتّى يئست منه، وقبلت بأبي سفيان حين تقدّم لها. غير أنّ الحبّ الآن تحوّل إلى بغضٍ لا حدود له، فهي من جهة لم تنس الإهانة بصدّه لها، وهو قاتل أبيها أيضاً. عادت هند من شرودها وقالت لجبير: "الحمزة أو علي، لا فرق عندي فليقتل كليهما أو أحدهما وأنا عند وعدي له".
الزّحف باتّجاه أحد:
سارت قريش إلى أحدٍ ثأراً لبدر، يحدوها أبو سفيان في ثلاثة ألاف مقاتل جمعهم من كلّ القبائل العربيّة مستغلاً أحلافه وموقعه القبلي، لكن قبل خروج قريش، بعث العبَّاس بن عبد المطلب إلى رسول الله (ص) يحذّره من كيد قريش ونيّتها مباغتة الرّسول في المدينة، فخرج الرّسول الكريم لملاقاتهم في ألف رجل أو يزيدون قليلاً. كان الامام علي عليه السلام حامل لوائه وآمر الكتيبة الخضراء التي قوامها من فرسان بني هاشم الذين تعرف وطأتهم، وبين يديه عمّه الحمزة بن عبد المطّلب كالأسد الهصور. إنّما لم يكد جيش المسلمين يصل منتصف الطّريق بين المدينة وأحد، حتّى عاد عبد الله بن أُبي بن سلول ـ رأس النفاق ـ بثلث الجيش قائلاً: "علامَ نقتل أنفسنا؟! ارجعوا أيُّها الناس"، فرجع وبقيَ مع رسول الله سبعمائة.
التقاء الجيشين:
التقى الجمعان في أحد وهي منطقة سهليّة يتوسّطها جبلُ أحد، فجعل رسول الله (ص) ظهر جيشه للجبل، وركز فوق الجبل خمسين من خيرة رماة المسلمين، أمّر عبد الله بن جبير عليهم، وأوصاهم: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشاركونا[1]"، ثمّ قسّم الرّسول المهام بين قادة الجند، وجعل الحمزة على قلب الجيش.
وقعت غزوة أحد يوم السّبت لسبع ليالٍ خلت من شهر شوال، وقيل لإحدى عشرة ليلة مضت من شهر شوال في السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة.
وقائع المعركة:
بعدما اصطفّ الجيشان للمعركة، تقدَّم كبش الكتيبة طلحة بن أبي طلحة وصاح: "من يبارز؟"، فخرج له الامام علي عليه السلام ورسول الله "ص" جالس في عريش أُعدَّ له يشرف على المعركة، ويراقب سيرها، فقال طلحة وقد اعتراه الخوف حين رأى الامام علي عليه السلام: "يا عليّ، لقد علمت أنَّه لا يجرؤ عليَّ أحدٌ غيرك"، هزّ الامام علي عليه السلام سيفه بوجه طلحة ولم يجبه، ثمّ التحمت سيوفهما، فضرب الامام علي عليه السلام رأس طلحة ضربة فلق فيها هامته، فبدرت عيناه، وصاح صيحة لم يُسمع مثلها، ووقع يخور في دمه كالثور، فكبَّر رسول الله "ص" وكبّر المسلمون. ثمّ تقدَّم بعده أخوه عُثمان بن أبي طلحة، فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب، فضربه بسيفه ضربةً مزّقت عاتقه، لكنّه رجع عنه حين سمعه يقول: "أنا ابن ساقي الحجيج". هرع بعدهما أخوهما أبو سعيد بن أبي طلحة لنصرة أخيه، فحمل عليه الامام علي عليه السلام فقتله، ثُمَّ برز أرطأة بن شرحبيل، فقتله الامام علي عليه السلام أيضاً. خرج للمبارزة بعد ذلك شجعان قريش واحداً واحداً، فقتلهم عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، فكان من برزوا للإمام تسعة وانهزم القوم[2].
بعد انتهاء المبارزة وانكفاء المشركين عن الخروج، أعطى رسول الله أمر الهجوم، والمسلمون خلف الامام علي عليه السلام والحمزة يكبّرون ويهللون ومعنوياتهم في أعلاها، والتحم الجيشان، فاخترق المسلمون صفوف المشركين كموجةٍ ضربت قلعة رملٍ على الشاطئ يضربون منهم الأعناق ويضربون كلّ بنان.
كانت عين وحشي تطمح للحريّة لكن الثّمن رمية حربة. لم يكن يعبأ بفرار المشركين من أمام المسلمين، فهو لا يبغي قتال أحد، هو يريد حريّته فقط، ولا بأس إن فقد حياته في سبيل ذلك، فالحريّة قد تساوي الرّوح أحياناً. عينه لا تبارح الصنديد الذي يزيح المقاتلين بسيفه وعلى صدره ريشة بيضاء. ها هو يظهر جلياً أمام وحشي، لا يفصله عنه سوى أمتارٍ قليلة. التقت عيناهما لكنّ الحمزة ما كان ليهتمّ إلا بمن يهزّ سيفه أمامه، فما للحمزة ولعبد يقف بعيداً بحربة غير متحفّزٍ لقتال! هابه وحشي أوّل الأمر، فعلى وجه الحمزة هيبة الأسود من بني هاشم. تجمّد في مكانه أوّل الأمر، قرر التّراجع عن المهمّة، لكنّ صوت هند رنّ في أذنه ثانيةً كوساوس ألف شيطان. سمع صوت رنين الفضّة يزيّن له فعلته، وشجّعه على ذلك عدم اكتراث الحمزة له. كاد الحمزة يقطعه وهو يطارد فلول المشركين، فجأة ناداه وحشي باسمه، فاستدار الحمزة له، فدبّ الرّعب في قلب وحشي الذي سارع لرمي حربته قبل أن تتجمّد ذراعاه من هيبة الرّجل، فإذا بالحربة تستقر في صدر الحمزة. أصدر أنّة انتبه لها المسلمون وتصايحوا، "حمزة حمزة"، وصل النّداء لمسامع رسول الله الذي كان وسط أصحابه يناوش فلول المشركين، فهبّ تجاه الصّوت ليرى عمّه جاثياً على ركبتيه وغبار النّقع يلفّه، وقد أحاط به عدّة مقاتلين يطعنونه كي يجهزوا عليه، فنادى الرّسول: "واعمّاه"، فكرّ الامام علي عليه السلام باتّجاهه وقتل من تجرّأ على الأسد المحتضر. فرّ المشركون من أمام المسلمين الذين كرّوا كالإعصار يقتلون ويجرحون. قال الله تعالى: "وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِين[3]".
وصل المسلمون في انتقامهم للحمزة حتّى هودج هند التي استصرخت زوجها وابنها وكلّ فارسٍ في قومها بلا جدوى، لقد كان السبيّ مصيرها لا محالة. كانت الغنائم أكثر من يوم بدر، وبدأ المسلمون بالفعل يستولون على عير قريش ومتاعهم بعد أن فرّ صناديدهم بعيداً تاركين كلّ شيء للمسلمين.
انقلاب الأحداث:
انتبه الرّماة على الجبل إلى النّصر المؤزّر الذي حازه اخوانهم، وشاهدوا من بعيد ما يغنمون من عتاد وأموال. صاح أحدهم: "لقد كسرناهم"، بينما نادى آخر: "نصيبنا من الغنائم"، وبدأوا بالتّدافع للنّزول عن الجبل متناسين أمر رسول الله لهم: "وإن شاهدتمونا نغنم فلا تشاركونا"، وعبد الله بن جبير يناديهم: "الزموا أماكنكم، لا تخالفوا أمر رسول الله"، لكن الطبيعة البشريّة غلبت إيمانهم وحلمهم، وغدا الجبل خلال دقائق خالياً إلا من بضعة رجال لا يغنون عن المسلمين شيئاً.
لم يكن خالد بن الوليد قد اشتبك مع المسلمين بعد، فقد انتحى جانباً مع كتيبة فرسان من بني مخزوم يراقبون سير العمليات من بعيد. كاد يأمر فرسانه بالانسحاب بعد هجوم المسلمين الكاسح لولا أنّه لمح في اللحظة الأخيرة بعين القائد الحاذق هبوط الرّماة عن الجبل. دون تلكّؤ أمر فرسانه أن يتبعوه، وبدأت الخيل تقرع حصى الميدان في مناورة التفاف حول الجبل، ليُفاجأ بهم المسلمون المنشغلين بالاستيلاء على الغنائم من الخلف.
بُهت المسلمون بكتيبة فرسان تجتثّهم من حيث لم يحتسبوا، فارتبكوا وتفرّقوا. حين رأى أبو سفيان ذلك نادى على فلول المشركين الفارّين أن تجمّعوا وارجعوا إلى الميدان، وصاح: "من يأتيني برأس محمّدٍ وأنا أكفيه أيّامه ولياليه[4]". ما أحسَّ المسلمون إلَّا والعدو قد أحاط بهم من كلّ جانب واختلط بينهم، فتشتت شملهم، يتعرَّضون لضرب السيوف وطعن الرماح من كلِّ صوب، فانسحبوا إلى الجبل لا يلوون على شيء تاركين الرّسول في الميدان وحده، والرّسول يناديهم: "إليّ إليّ"، لكن دون جدوى. قال الله تعالى: "إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ۗ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[5]".
قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم قتالاً شديداً لم تشهده العرب قبلاً، وقد اجتمعت عليه كتائب المشركين يبغون قتله بأيّ وسيلة. ضربه عتبة بن أبي وقاص الزهري على رأسه الشّريف فكسر خوذته، فيما وصل سيف عبد الله بن شهاب الزهري إلى جبهته الشريفة فجرحها ليسيل الدّم الزّكي على وجهه، وتمكن عبد الله بن قمئة الليثي الكناني من كسر أنفه ورباعيته السفلى، وشقَّت شفته[6]. غلب الضعف رسول الله وهو يناوش المشركين من حوله، وتعثّر بحصاة فوقع على وجهه الشّريف مضرّجاً بدمه، فظنّ المشركون أنّه قُتل فتجمّدوا في مكانهم يتصايحون: "قُتل محمدٌ، قتل محمد"، وصل النّداء إلى انحاء الميدان وعليّ عليه السّلام في عمق جيش المشركين وحده يثأر لعمّه الحمزة. حين طرق مسمعه أن رسول الله قُتل، شدّ كأسدٍ جريح على العصابة التي تُحيط برسول الله، كان الرسول مغشياً عليه في أرض الميدان وتحيط به أسنّة القوم، إلا أنّ أحداً منهم لم يجرؤ على الاقتراب منه للإجهاز عليه، فكلّ قبيلة منهم تريد الأخرى أن تجهز على الرّسول مخافة من انتقام بني هاشم منه ومن قبيلته، لقد أبلسهم[7] الله عزّ وجلّ ساعتها وكتب النّجاة لنبيّه الكريم. لحظات وهزّ قلوبهم زئير ابن أبي طالب يصيح: "فداك روحي يا رسول الله". فرّق القوم بسيفه فتفرّقوا عنه، لمّا سمع رسول الله صوت الامام علي عليه السلام ناداه: "إليّ إليّ يا عليّ"، فاطمئنّ الامام علي عليه السلام أنّ رسول الله حيّ يرزق. أنهضه والتفت للقوم يرمقهم بعين يتطاير منها الشرر، فهابوه وأحجموا عن الهجوم حتّى جاءت الفرسان التي فرّقت جيش المسلمين تريد أن تكمل مهمّتها وتقضي على رسول الله. ثبت الامام علي عليه السلام لكتيبة الفرسان ومن خلفه الرّسول. قاتلهم كالوتد المنصوب في الأرض لا يتزحزح، حتّى حرنت الخيل بفرسانها ورمتهم من على صهواتها، ثمّ أجهز الامام علي عليه السلام على جماعة منهم وصلوا إلى النّبيّ[8]. تجمّع الفرسان من جديد، وانضّم اليهم العديد من الرّجالة، وجاء أبو سفيان يحثّهم أن يأتوه برأس محمّد، فعاود المشركون الهجوم على رسول الله من كلّ جانب، وعليّ يذبّ عنه كأسد وسط الحومة. لم يثنّي ضربة، ولم تخب له طعنة، حتّى أكثر فيهم القتل فانسحبوا ثانيةً مبتعدين عنه وعن رسول الله. حينها سمع أهل أحد جميعهم، صوتاً ينادي في السّماء: "لا فتى إلا عليّ، ولا سيف إلَّا ذو الفقار[9]".
رجوع المسلمين للميدان:
حين سمع المسلمون الصّوت من السّماء، وتثبّتوا من وجود النّبي وعليّ في الميدان وحدهما، عاود بعضهم حمل سيوفهم وهرعوا إلى الرسول مناصرين، فلمّا رأى المشركون هبّة المسلمين من جديد خشوا أن تنقلب نتيجة المعركة من جديد، فأعلن أبو سفيان وقف القتال وانكفأ المشركون متنحّين إلى جانب الميدان، فحمل المسلمون النّبي وقد أثقلت الجراح بدنه، وكذلك كان بدن الامام علي عليه السلام مضّرج بالدماء التي نزفها من كلّ مكان في جسده، وصعد المسلمون الجبل، وخلّوا الميدان للمشركين.
التمثيل بالشّهداء:
اغتنمت بنت عتطبة الفرصة، وتوجّهت إلى جسد الحمزة المسجّى على الرمضاء. كان ما يزال دافئاً حين سلبته درعه وبدأت تمزّق أحشاءه مخرجةً كبده الشريف، لاكت منه مضغةً فما استساغتها وبصقتها، ثمّ فقأت عينيه، وجدعت أنفه، وشوّهت معالمه وتركته ومضت[10].
النّصرة بعد الهزيمة:
بعد انقشاع غبار المعركة، وإخلاء قريش للميدان مزهوّةً بانتصارها، وقف الرسول الكريم وعليّ على يمينه يتأمل جثمان عمّه وأخيه من الرّضاعة ورفيق عمره الحمزة بن عبد المطلب مقلوع العينين، مجدوع الأنف، مبقور البطن، وقد أُخرجت أحشاؤه، ومثّل به أشنع تمثيل. لم يستطع الرّسول تمالك نفسه فانحلّت قدماه من الحزن على الحمزة، وكاد يقع لولا أنّ الامام علي عليه السلام أسنده، وقال له مواسياً: "أعظم الله لك الأجر يا مولاي، مُرني فلا أعود من مكّة إلا بثأر يليق بعمي"، عندها أمره الرّسول باختيار سبعين رجلاً فدائياً من المسلمين، وأمرهم أن يعصبوا رؤوسهم بعصابات حمراء كدليل على طلبهم الشّهادة في سبيل الله، ثمّ أعطى رايته المعقودة سلفاً لعلي، الذي سارع بطلب المشركين، فأدركهم في موقع مشرف على طريق مكّة يدعى "حمراء الأسد". غير أنّ المشركين لمّا علموا بنيّة المسلمين بالانتقام، سارعوا بالعودة إلى مكّة، ولم يجرؤا على ملاقاة الرّجال السبعين، مع أن جيش قريش كان يقدّر بثلاثة ألاف مقاتل، مزهوين بنصر الأمس، إلا أن خشيتهم من بأس الامام علي عليه السلام ورفاقه دفعهم إلى الهرب وتجنّب اللقاء. فأنزل الله تعالى في ذلك: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}[11].

 


[1] المستدرك على الصحيحين، حديث رقم 3119.
[2] إرشاد المفيد.
[3] آل عمران، الآية 152.
[4] أي أنّه سيجزل له العطاء بحيث لن يفتقر بقيّة حياته أبداً.
[5] آل عمران، الآية 153.
[6] الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج2، ص 152.
[7] ثبتهم وخذلهم.
[8] إرشاد المفيد، ص 53 بتصرف.
[9] الطبري، تاريخ الطبري: ج2، ص197، الهيثمي، مجمع الزوائد: ج6، ص114، الهندي، كنز العمال: ج15، ص126، ابن كثير، البداية والنهاية: ج6، ص5، ابن هشام، السيرة النبوية: ج2، ص106، المعتزلي، شرح نهج البلاغة: ج14، ص250 .
[10] فتح الباري - ابن حجر - ج 7 - ص 272، الطبقات الكبرى - محمد بن سعد - ج 3 - ص 12، تاريخ الطبري - الطبري - ج 2 - ص 204، البداية والنهاية - ابن كثير - ج 4 - ص 42.
[11] أسباب نزول الآية 172 من سورة آل عمران في تفسير البغوي، وتفسير السعدي، التفسير الوسيط، تفسير ابن كثير، تفسير الطبري.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى