المستشرق تومـــــــــاس كـــارلايل محمد وعلي أبطال الملحمة الخالدة

2022.01.31 - 10:16
Facebook Share
طباعة

توماس كارلايل (1795-1881) فيلسوف ومؤرخ وكاتب إسكتلندي، وناقد ساخر. كان لأعماله تأثير كبير بالعصر الفيكتوري، وهو من عائلة كالفينية[1] متدينة، أملت أن يصبح واعظاً، إلا أنّه فقد التزامه الدينيّ أثناء دراسته بجامعة إدنبرة، ومع ذلك بقيت القيم الكالفينيّة تلازمه طوال حياته. من أشهر الكتّاب الذين تمّيزوا بنظريات خاصّة، إذ عُرف بتفسيره التاريخ والانبعاثات الحضارية على أساس جهود الأبطال، فهو يؤكِّد أن تقدّم الأُمم انعكاس، وتطور للهمّة العالية لدى بطل يظهر في تلك الأُمّة.
عرف كارلايل بموقفه الإيجابي المنصف للدِّين الإسلامي، والنبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) الذي يعدّه من أبرز الأبطال في التّاريخ، ويخصص له ثاني فصول كتابه الذائع الصيت "الأبطال".
وُلِد هذا المفكّر المتعمق في قرية اكلفكان أناندال بجنوب اسكتلندا عام 1795، وعاش ستة وثمانين عاماً، قضاها في وضع التآليف القيّمة، بين فلسفة وتاريخ، وترجمة ومواعظ وحكمة. أشهر مؤلفاته كتاب "الأبطال"، وفيه تقديس لشخص البطل في كلّ عصر وأوان، وتمجيد لعنصر البطولة.
من كتبه أيضاً "التاريخ والحاضر"، وكتاب "الثورة الفرنسية"، وكتاب "سارتور رزارتوس"، أو "فلسفة الملابس" و"سيرة كرومويل" و"تاريخ فريدريك ملك بروسيا".
كتاب "الأبطال":
يصنف كارلايل الأبطال في كتابه إلى صور مختلفة يظهرون بها، ويحيون بها أُممهم، فمنهم البطل في صورة إله ومثاله المسيح، والبطل في صورة نبيّ، ونموذجه الرسول محمّد (ص)، وهنالك الأبطال في صورة شعراء كشكسبير ودانتي.
أولاً- إعجابه ورأيه بالنبيّ محمّد (ص):
انبهر كارلايل أشدّ الانبهار بشخصيته نبيّ الإسلام، واعتبره مثالاً متكاملاً لعلو الهمّة، والطبع الإنساني الرؤوف، وتجسيداً لكلّ الفضائل الأخلاقية. ودافع عنه دفاع عارف بدقائق التاريخ، منتقداً بشدّة المفترين الغربيين، الذين لم يألوا جهداً في تسقيط هذا الصرح المنيف، ووصمه بما يعاكس الواقع تماماً.
يقول كارلايل في فصل "البطل في صورة رسول": "لقد أصبح من أكبر العار على أيّ فرد متمدن من أبناء هذا العصر، أن يصغي إلى ما يُظن من أنّ دين الإسلام كذب، وأنّ محمّداً خدّاع مزوّر. وآن لنا أن نحارب ما يُشاع من مثل هذه الأقوال السّخيفة المخجلة، فأنّ الرّسالة التي أدّاها ذلك الرّسول مازالت السّراج المنير مدة اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من النّاس أمثالنا[2]".
ويحمل كارلايل ببسالة على متهمي النبيّ (ص) بالكذب فيقول: "أسفاه ما أسوأ مثل هذا الزّعم، وما أضعف أهله، وما أحقّهم بالرّثاء والمرحمة. فعلى مَن أراد أن يبلغ منزلةً ما في علوم الكائنات ألا يصدّق شيئاً البتة من أقوال أولئك السّفهاء. فإنّها نتائج جيل كفر وعصر جحود وإلحاد، وهي دليل على خشب القلوب، وفساد الضمائر، وموت الأرواح في حياة الأبدان، ولعلّ العالم لم يرَ قطّ رأياً أكفر من هذا وأشدّ لؤماً، وهل رأيتم قطّ معشر الأخوان، أنّ رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً عجباً. والله إنّ الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتاً من الطّوب".
ويؤكّد دفاعه المستميت هذا في موضع آخر أيضاً: "وعلى هذا، فلسنا نعد محمّداً هذا قطّ رجلاً كاذباً متصنعاً، يتذرع بالحيل والوسائل إلى بُغية، أو يطمح إلى درجة ملك، أو سلطان، أو غير ذلك من الحقائر والصغائر. وما الرّسالة التّي أدّاها إلّا حقاً صراحاً، وما كلمته إلّا صوت صادر من العالم المجهول. كلا ما محمّد بالكاذب ولا الملفق، وإنّما هو قطعة من الحياة، قد تفطّر عنها قلب الطبيعة، فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع. ذلك أمر الله، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء والله ذو الفضل العظيم، وهذه حقيقة تدفع كلّ باطل، وتدحض حجة القوم الكافرين".
 
ثانياً- جوانب من حياة الرسول:
 
يستعرض كارلايل في كتابه (الأبطال)، صوراً من مراحل حياة الرسول الأكرم، من جملة ما سجله عنه (ص): "ولوحظ عليه منذ فتائه أنّه كان شاباً مفكّراً، وقد سمّاه رفاقه الأمين ـرجل الصّدق والوفاءـ الصّدق في أفعاله، وأقواله، وأفكاره، وقد لاحظوا أنّ ما من كلمة تخرج من فيه، إلّا وفيها حكمة بليغة، وإنّي لأعرف عنه أنّه كان كثير الصّمت، يسكت حيث لا موجب للكلام، فإذا نطق، فما شئت من لب وفضل وإخلاص وحكمة، لا يتناول غرضاً فيتركه إلّا وقد أنار شبهته، وكشف ظلمته، وأبان حجته واستثار دفينته، وهكذا يكون الكلام وإلّا فلا. وقد رأيناه طول حياته رجلاً راسخ المبدأ، صارم العزم، بعيد الهمة، كريماً براً، رؤوفاً تقياً، فاضلاً حراً، رجلاً شديد الجدّ، مخلصاً، وهو مع ذلك سهل الجانب، ليّن العريكة، جمّ البِشر والطلاقة، حميد العشرة، حلو الإيناس، بل ربما مازح وداعب، وكان على العموم يضئ وجهه ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق".
ويستدل كارلايل على صدق الرسول الكريم، وأصالة دعوته بمختلف الأدلة والأساليب، ومن ذلك قوله: "ومما يبطل دعوى القائلين أنّ محمّداً لم يكن صادقاً في رسالته، بل كان ملفقاً مزوّراً، إنّه قضى عنفوان شبابه، وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة، لم يحاول أثناءها إحداث ضجّة، ولا دوياً مما يكون وراءه ذكر وشهرة، وجاه وسلطة. ولمّا يكُ إلّا بعد الأربعين أن تحدث برسالة سماويّة".
ويستطرد المؤرخ الكبير في استعراض مشاهد من حياة الرسول الكريم الحافلة بالكفاح والضنى، والدعوة إلى الحقّ، ويشير إلى اجتماع عشيرته في بيته، ومصارحته إياهم بالرسالة التي بُعث بها، ودعوتهم إلى التصديق والإيمان به، والدخول في الدِّين الجديد، وعدم استجابتهم له، إلّا ربيبه الأثير عليّ بن أبي طالب: "وبينما القوم صامتون حيرةً ودهشةً، وثب عليٌّ وكان غلاماً في السادسة عشرة، وكان قد غاظه سكوت الجماعة، فصاح في أصدق لهجة، أنّه ذاك النصير والظهير. ولا يحتمل أنّ القوم كانوا منابذين محمّداً، وكلّهم قرابته، وفيهم أبو طالب عم محمّد ووالد عليّ، ولكن رؤية رجل كهل أُميّ يعينه غلام في السادسة عشر يقومان في وجه العالم بأسره، كانت مما يدعو إلى العجب المضحك، فانفضَّ القوم ضاحكين، ولكن الأمر لم يكُ بالمضحك بل كان نهاية في الجدّ والخطر".
 
ثالثاً- إشادته بالإمام عليّ (عليه السلام):
 
ويعرّج كارلايل إلى شيء من سيرة عليّ بن أبي طالب (ع)، وخصاله فيقول مشيداً بهذا البطل الإسلامي الفذ: "أمّا عليّ، فلا يسعنا إلّا أن نحبّه ونتعشقه، فإنّه فتىً شريف القدر، كبير النفس، يفيض وجدانه رحمة وبراً، ويتلظّى فؤاده نجدة وحماسة، وكان أشجع من ليث، ولكنّها شجاعة ممزوجة برقّة ولطف، ورأفة وحنان، جدير بها فرسان الصّليب في القرون الوسطى. وقد قُتِلَ بالكوفة غيلة، وإنما جنى ذلك على نفسه بشدّة عدله، حتى حسب كلّ إنسان عادلاً مثله، وقال قبل موته حينما استشير في أمر قاتله، إن عشت، فالأمر إليَّ، وإن متُّ فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصوا، فضربه بضربة، وإن تعفوا أقرب إلى التقوى".
 
رابعاً- اتهامات أخرى يرد عليها كارلايل:
ويواصل كارلايل منافحته عن دينٍ وجد فيه مجمعاً للقيم الخيّرة، ورأى تحاملاً شرساً عليه من الغربيين بكلّ ما يجافي الواقع والموضوعية، فكتب: "قيل وكتب كثيراً في شهوانيّة الدِّين الإسلامي، وأرى أنّ كلّ ما قيل وكُتِبَ كان جوراً وظلماً، فإنّ الذي أباحه محمّد -ممّا تحرمه المسيحية- لم يكن من تلقاء نفسه، وإنّما كان عرفاً جارياً متبعاً لدى العرب من قديم الأزل، وقد قلّل محمّد هذه الأشياء جهده، وجعل عليها من الحدود ما كان في إمكانه أن يجعل، والدِّين المحمدي بعد ذلك ليس بالسهل ولا بالهيّن، وكيف ومعه كلّ ما تعلمون من الصوم والوضوء، والقواعد الصّعبة الشديدة، وإقامة الصّلاة خمساً في اليوم، والحرمان من الخمر، وليس كما يزعمون، أن نجاح الإسلام وقبول الناس إياه كان لسهولته! لأنّه من أفحش الطعن على بني آدم، والقدح في أعراضهم، أن يتهموا بأنّ الباعث لهم على محاولة الجلائل وإتيان الجسائم هو طلب الراحة واللذة".
ويتابع قوله: "ما كان محمّد أخا شهوات، برغم ما اتّهم به ظلماً وعدواناً. وأشدّ ما نجور ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوياً، لا همَّ إلّا قضاء مآربه من الملاذ، كلا من أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أيّما كانت، فلقد كان زاهداً متقشفاً في مسكنه، ومأكله ومشربه، وسائر أموره وأحواله".
وتتفجر العاطفة من يراعه حين يكتب عن حبّه الصّادق لشخصيّة النبيّ (ص): "وإنّي لأحبّ محمّداً لبراءة طبعه من الرياء والتصنع، ولقد كان ابن القفار هذا رجلاً مستقل الرأي لا يعوّل إلّا على نفسه، ولا يدّعي ما ليس فيه، ولم يكن متكبراً، ولكنّه لم يكن ذليلاً ضرعاً. فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده الله، وكما أراد. يخاطب بقوله الحرّ المبين قياصرة الروم، وأكاسرة العجم، ويرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة".
ويعبّر عن صادق رأيه في جانب من جوانب الدِّين الإسلامي فيقول: "وفي الإسلام خلّة أراها من أشرف الخلال وأجلّها، وهي التسوية بين الناس. وهذا يدلّ على صدق النّظر، وأصوب الرأي. فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض والناس في الإسلام سواء".
في الختام، علينا أن نقرّ بأنّ تداعي شخصٍ علماني النّزعة، عالمي التوجّه، كتوماس كارلايل، لتبنّي موقف المدافع عن رسول الله (ص)، بهذه الحدّة والبسالة، لهو مدعاة فخر لنا نحن المسلمون، وهو دليل على صدق دعوة نبيّنا الكريم (ص)، وعالميّة رسالته، قال الله تعالى: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرّحمن وُدّاً". فالله تعالى أولى بالنّبيّ، وأقدر على أن يجنّد له أقلاماً عالميّة محترمة ومقروءة تنافح وتنافح عنه، اللهم صلي وسلم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله الأطهار، وصحبه الأخيار.

 



[1]الكالڤينيّة هي مذهب مسيحي بروتستانتي يعزى تأسيسه للمصلح الفرنسي جون كالفن، وكان هذا الأخير قد وضع بين عامي 1536م و1559م مؤلّفه والذي يعتبره الكثيرون من أهم ما كتب في الحركة البروتستانتية. انفصل الكالفينيون عن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في القرن 16.
[2] نشر الكتاب في عام 1881، أي قبل أكثر من مائة وأربعين عاماً، لذلك يُلاحظ اختلاف الأرقام بشدّة عن يومنا هذا.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى