الامام علي (ع) والرعية

2021.08.02 - 08:16
Facebook Share
طباعة

 كان الإمام عليّ (عليه السّلام) يريد الناس لله ويريدهم لإحياء السنّة النبويّة، فبدأ عمله في الإصلاح ضمن هذا الإطار، فلقيَ تجاوباً جماهيريّاً في بادئ الأمر، وعَمِل (عليه السّلام) على الانتصاف للمظلومين من ظالميهم، وعلى إزالة الفواصل الطبقيّة بين الأشراف والأتباع، فلمّا يئس الأشراف والخاصّة من باطله ـ وكان لهم نفوذهم بين الناس ـ قاوموه. ولم يكن الإسلام قد استحكم في النفوس، ولم يكن عامّة الناس قد تلقّوا طوال السنوات الخمس والعشرين تربية ثقافية تُذكر، وكان للقبيلة مركزها الكبير الذي زاد تأثيره خلال الفترة التي أعقبت ارتحال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلا عجب أن يعبّر أمير المؤمنين (عليه السّلام) عن قلقه من هذا الوضع، في قوله (عليه السّلام) في الخطبة 192:

(فأَطْفِئوا ما كمَنَ في قُلوبكم مِن نيرانِ العصبيّة وأحقاد الجاهليّة، فإنّما تلك الحميّةُ تكون في المُسلم من خَطَرات الشيطان ونَخَواته، ونَزَغاته ونَفَثاته... ألا فالحَذَر الحَذَر من طاعةِ ساداتكم وكُبرائكم الذين تكبّروا عن حَسَبِهم، وتَرَفَّعوا فوق نَسَبِهم... فإنّهم قواعدُ أساسِ العصبيّة، ودعائِمُ أركان الفِتنة، وسُيوف اعتزاء الجاهليّة ).
وقد جاء في التنزيل العزيز أنّ هذه المسألة تعرّض لها الأنبياء السابقون الذين مثّلوا مع أتباعهم الأقليّة في مجتمعاتهم، بينما وقف مخالفوهم في صفّ الأكثريّة. وعلى الرغم من أنّ هذه المخالفة كانت ترجع في أصلها إلى أمر الإيمان بالدين الذي جاء به أولئك الأنبياء، إلاّ أنّهم كانوا يشكّلون ـ على أيّ حال ـ الأقليّة مقابل الأكثرية الساحقة، وهو أمرٌ قد يجعل البعض يتساءل عن مدى الملازمة بين الأكثريّة وبين الاستمساك بالحقّ.
لذا وجدنا أمير المؤمنين (عليه السّلام) يخاطب أصحابه:
( لا تَسْتَوْحِشوا في طريق الهُدى لِقِلّة أهله، فإنّ الناسَ قد اجتمعوا على مائدةٍ شِبعُها قصير وجُوعُها طويل ).
وكان لرؤساء القبائل دور رئيسي في تسيير الناس والتأثير عليهم في الانحياز إلى أحد أطراف المواجهة. وكان الناس في ذلك العصر ـ ونقصد بالناس المستضعفين ذوي الوعي القليل ـ قد ابتعدوا عن الإسلام باعتباره المحور الأساسي للتحرّك، بل تخلّوا عن أهل البيت أحد الثقلَين اللذين أوصى بهما رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). ثمّ جاءوا إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) يبايعونه وينتظرون منه أن يسير بهم سيرة ( السابقون )، فيفضّل أشراف المهاجرين والأنصار، ولم يكونوا يدركون الأبعاد الحقيقية لأمير المؤمنين (عليه السّلام) باعتباره إمام أهل البيت (عليهم السّلام). يقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام):
( قد خاضُوا بِحارَ الفِتَن، وأَخذوا بالبِدَع دون السُّنَن، وأرَزَ المؤمنون، ونَطَق الضالّون المُكذِّبون. نحنُ الشِّعارُ والأصحاب، والخَزَنة والأبواب، ولا تُؤْتى البُيوت إلاّ مِن أبوابِها، فمَن أتاها مِن غَير أبوابِها سُمِّي سارِقاً ).
وكان لحضور الناس وكثرتهم أهميّة في نظر الإمام (عليه السّلام) في قبوله تحمّل المسؤولية في قيادتهم، أمّا إذا عجز الإمام ـ وهو القائد ـ عن الانتصاف للمظلوم وعن تطبيق أحكام الدين، فإنّ الرغبات المنحرفة لأكثريّة الناس لن يكون لها في نظره أيّ اعتبار، وحكومتهم على هذا الأساس ستكون لديه أدنى من عَفطة عَنز ـ كما في تعبيره الرائع (عليه السّلام)، فإنّ العارف برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبأهل بيته عليهم السّلام حقّ المعرفة إذا مات على معرفته، كان من الفائزين ولو مات على فراشه.
يقول أمير المؤمنين (عليه السّلام) في الخطبة 190:
( الزَموا الأرض، واصبِروا على البلاء، ولا تُحرِّكوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتِكم، ولا تستعجلوا بما لم يُعجلّه اللهُ لكم، فإنّه مَن مات منكم على فراشه وهو على معرفةِ حقِّ ربّه وحقِّ رسولهِ وأهلِ بيته، مات شهيداً ووقع أجرُه على الله ).
يقول أمير المؤمنين (عليه السّلام) في الخطبة 176 في تقسيم الناس إلى قسمين:
( وإنّما الناس رَجُلان: مُتَّبِعٌ شِرعَةً، ومُبتدعٌ بِدعةً، ليس معه مِن الله سبحانه بُرهانُ سُنّةٍ ولا ضياءُ حُجّة ).
وليسَت هذه البدع التي يُشير إليها الإمام (عليه السّلام) إلاّ المسيرة المنحرفة التي وُجدت قبله. وقد وصف أمير المؤمنين (عليه السّلام) الناسَ في خطبه بمجانبة الحقّ والانحياز إلى صفّ الباطل، وكان يدعوهم إلى التزام الحقّ ولو رأوا في الباطل نفعاً دُنيويّاً عاجلاً.
يقول (عليه السّلام) في الخطبة 125:
( إنّ أفضلَ الناسِ عندَ اللهِ مَن كانَ العملُ بالحقّ أحبَّ إليه ـ وإنْ نَقَصَهُ وكَرَثَهُ ـ من الباطلِ وإنْ جَرَّ إليه فائدةً وزادَهُ. فأينَ يُتاهُ بكم ؟! ومِن أين أُتِيتم ؟!... ما أنتم بوَثيقةٍ يُعلَقُ بها، ولا زَوافِرَ عِزٍّ يُعتَصَمُ إليها. لَبِئسَ حُشّاشُ نارِ الحربِ أنتم! أُفٍّ لكمّ! لقد لَقِيتُ منكم بَرَحاً، يَوماً أُناديكم ويوماً أُناجيكم، فلا أحرارَ صِدقٍ عند النِّداء، ولا إخوانَ ثِقَةٍ عِند النَّجاء ).
كان أمير المؤمنين (عليه السّلام) يستعمل أحياناً تعبيرات شديدة في وصف اختلاف الناس وتفرّقهم عن الحقّ، (عليه السّلام) ، ويرى أصحابه يَعصُون أمره، فكان يناديهم بـ ( أشباه الرجال )، لأنّه  (عليه السّلام) استنفر أهل الكوفة فلم يجتمع له منهم ـ بشقّ الأنفس ـ إلاّ أقلّ من ألف نفر، فخطبهم (عليه السّلام) ( الخطبة 131 ) قائلاً:
( أيّتها النُّفوسُ المختلفة، والقُلوبُ المُتشتِّتة، الشاهِدةُ أبدانُهم، والغائبةُ عنهم عُقولُهم، أَظْأَرُكُم على الحقِّ وأنتم تَنفِرون عنه نُفورَ المِعزى مِن وَعوعةِ الأسد! هَيهاتَ أنْ أطلَعَ بكم سَرارَ العَدل، أو أُقيمَ اعوِجاج الحَقّ).
والخطب التي تتحدّث عن فرار الناس عن الحقّ كثيرة، جاء في الخطبة 175 قوله (عليه السّلام):
( أيُّها الغافلون... مالي أراكُم عن اللهِ ذاهبين، وإلى غَيرهِ راغبين ؟! ).
وفي الخطبة 39 قوله (عليه السّلام):
( مُنِيتُ بمَن لا يُطيعُ إذا أمَرتُ، ولا يُجيبُ إذا دَعَوتُ، لا أبا لَكُم! ما تَنتظرونَ بنَصرِكم ربّكم ؟! أمّا دِينٌ يَجمعكم، ولا حَميّة تُحْمِشُكم ؟! ).
وفي الخطبة 180 قوله (عليه السّلام) في ذمّ أصحابه:
( أيتّها الفِرقةُ التي إذا أَمَرتُ لم تُطِعْ، وإذا دَعَوتُ لم تُجِبْ، إنْ أُمْهِلتُم خُضْتُم، وإن حُوربتُم خُرْتُم، وإن اجتمعَ الناسُ على إمامٍ طَعَنتُم، وإن أُجِبْتُم إلى مُشَاقّةٍ نَكَصْتُم... ما تَنتَظِرون بنَصْرِكم والجهاد على حقِّكم ؟! المَوتَ أو الذُّلَ لكم! فواللهِ لَئِن يَومي ـ ولَيَأتِيَنّي ـ لَيُفَرّقَنّ بيني وبينكم وأنا لصُحبتكم قالٍ... للهِ أنتم! أمّا دِينٌ يَجمعُكم! ولا حَمِيّةٌ تَشْحَذُكم! أَوَ لَيس عَجَباً أنّ مُعاويةَ يدعو الجُفاةَ الطَّغامَ فيتّبعونَهُ على غير مَعونةٍ ولا عَطاءٍ، وأنا أدعوكم ـ وأنتم تَريكةُ الإسلام وبَقيّةُ الناس ـ إلى المعونةِ أو طائفةٍ من العطاء، فتَفَرّقون عَنّي وتَختلِفون عَلَيّ ؟! ).
تطرّق الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في أواخر أيّامه ـ ضمن انتقاده الأشخاص الذين خذلوه في مسيرته لتحقيق الأهداف الإسلاميّة الأصيلة ـ إلى الكلام عن الرجال الصادقين الذين عاصروا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكانوا في إيمانهم وأعمالهم فُرسانَ ساحة الإسلام والإنسانية، وكان يتحسّر لفراقهم، ليس لكونهم الأكثريّة، بل لسبقهم إلى الحقّ، وتسابقهم إلى التضحية والفداء من أجل المبدأ.
يقول (عليه السّلام) في الخطبة 121:
( أين القَومُ الذين دُعُوا إلى الإسلام فَقَبِلُوه، وقَرأوا القرآنَ فأحكموه، وهِيجوا إلى الجهادِ فَولِهوا وَلَهَ اللِّقاح إلى أولادِها، وسَلَبوا السُّيوفَ أغمادَها، وأَخَذوا بأطراف الأرضِ زَحفاً زَحفاً وصَفّاً صفّاً؛ بَعضٌ هَلَك وبعضٌ نَجا، لا يُبَشَّرون بالأحياءِ، ولا يُعَزَّوْنَ عن المَوتى، مُرْهُ العُيونِ من البُكاءِ، خُمْصُ البُطونِ من الصِّيام، ذُبلُ الشِّفاهِ من الدُّعاء، صُفْرُ الألوانِ من السَّهَر، على وُجوههم غَبَرَةُ الخاشِعين. أُولئك إخواني الذاهبون، فحَقَّ لنا أن نَظمأَ إلَيهم، ونَعَضَّ الأَيدي على فِراقِهم. إنّ الشَّيطانَ يُسَنِّي لكم طُرُقَهُ، ويُريدُ أن يَحُلَّ دِينَكم عُقْدةً عُقدة، ويُعطيكم بالجماعةِ الفُرقَة، وبالفُرقةِ الفِتنةَ، فاصْدِفوا عن نَزَغاتِه ونَفَثاتِه، واقْبَلُوا النَّصيحةَ مِمَّن أهداها إليكم، واعقِلوها على أنفُسِكم ).
وقد بيّن (عليه السّلام) في خطبته المفصّلة 182 نقاطاً مهمّة، :
( ما ضَرَّ إخوانَنَا الذين سُفِكَت دِماؤُهم ـ وهُم بصِفِّين ـ أَلاّ يكونوا اليومَ أحياءَ ؟! يُسيغون الغُصَصَ ويَشربونَ الرَّنِقَ! قَد ـ واللهِ ـ لَقُوا اللهَ فوَفَّاهُم أُجورَهم، وأحلَّهُم دارَ الأمنِ بعدَ خَوفِهم .
أين إخواني الّذين رَكبوا الطَريقَ، ومَضَوا على الحقّ ؟! أَين عمّار ؟! وأين ابنُ التَّيِّهان ؟! وأين ذُو الشهادتَين ؟! وأين نُظَراؤهم مِن إخوانهِمُ الذين تَعاقَدوا على المَنِيّة، وأُبْرِدَ برُؤوسِهم إلى الفَجَرةِ ؟!).
 
 
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى