الإمام عليّ (عليه السلام) في الأدب اللبناني المسيحي الحديث

2021.07.02 - 01:41
Facebook Share
طباعة

عندما تجد كتاباً، أو موسوعةً كُتبت من قبل مسلمين في فضل أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهذا أمر طبيعيّ، ويأتي ضمن سياقه الإنساني المعهود، فالمرء مجبولٌ على حبّ معتقداته، وأشخاص معتقداته، ومن الطبيعي أن يتغنّى بهم وبفضائلهم وأمجادهم، إنّما الظاهرة العجيبة فهي تسابق الأدباء والمفكّرين المسيحيين في العالم عموماً، وفي لبنان خصوصاً إلى الكتابة المستفيضة في فضائل أمير المؤمنين، هذا الأمر لطالما استوقف الباحثين، وحيّر النّقاد والمفكّرين، فما هو السرّ في هذه الشخصيّة حتّى استولت على عقول مفكّرين وفلاسفة لا يدينون بالإسلام أساساً، بل هم مسيحيّون ملتزمون بمعتقداتهم وتوجّهاتهم.
نحيلكم للإجابة على هذا التساؤل لما كتبه هؤلاء الروّاد أنفسهم، فدعونا نبدأ مع عميد الأدب العربي في المهجر، جبران خليل جبران:
- لا يخفى مقام جبران خليل جبران على أحد، فهو يتربّع على القمّة في الأدب الإنساني العالمي عموماً، والعربي خصوصاً، وهو حين يشهد لأمير المؤمنين (عليه السلام)، بمجاورته للروح الكليّة، فهو يعي ما يقول، ولا يتزلّف لأحد بذلك، ولا يحابي صاحب سلطة ولا جاه، فجبران ذاك الفيلسوف الأممي، المتماهي مع السّلام الذي أرساه في قلبه يسوع المسيح، يعلم تماماً ما يعنيه بالرّوح الكليّة، وأنّها تجليّات الخالق في خلقه من غير حلول أو تجسيم، فها هو يقول في عليّ (عليه السّلام): "في عقيدتي أنّ ابن أبي طالب، كان أوّل عربي لازم الرّوح الكليّة، وجاورها، وسامرها، وهو أوّل عربيّ تناولت شفتاه صدى أغانيها على مسمع قوم لم يسمعوا بها من قبل، فتاهوا بين مناهج بلاغته، وظلمات ماضيهم، فمن أعجب به كان إعجاباً موثوقاً بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية". وقال في ذلك أيضاً: "عليّ بن أبي طالب، كلام الله الناطق، وقلب الله الواعي، نسبته إلى من عداه من الأصحاب شبه المعقول إلى المحسوس، وذاته من شدة الاقتراب ممسوس في ذات الله".
"إن علياً هو أوّل عربيّ -بعد رسول الله (ص)- عرف الذّات الأحديّة، ولم يفارقها في حبّه، وإخلاصه، وصدق سريرته".
يقول جبران في سرّ محبّته لعليّ عليه السلام: " أعتقد أن الذين أحبوا علياً قد لبوا دعوة فطرتهم السليمة التي لم تفسدها السياسة، وشهوات الدنيا الآثمة.."
ثم يعزو سبب مخالفة قومه له، وتأمرهم عليه وقتله، ومن ثمّ محاولاتهم الحثيثة لطمس تراثه، وإبطال طريقته إلى تلك العظمة اللامتناهيّة المتجسّدة به، فيقول:
" حقا إن قريشاً أولت علياً حقداً أزرق لأنه قتل أعيان أبطالها في بدر، وأحد، والخندق".
"مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته، مات والصلاة بين شفتيه، مات وفي قلبه شوق إلى ربه، ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره، حتى قام من جيرانهم الفرس أناس يدركون الفارق بين الجوهر والحصى".
"في عقيدتي أن عليّاً جوهرة بين الحصى، تفرّد بمعانٍ جعلت منه الإنسان الكامل".
ويقول أيضاً: "مات ابن ابي طالب قبل أن يُبلّغ العالم رسالته كاملة وافيه، غير أنني أتمثّله مبتسماً قبل أن يغمض عينيه عن هذه الأرض، مات ابن ابي طالب شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم، وفي زمن ليس بزمنهم، ولكن لربك شأن في ذلك، وهو أعلم".
ويقول جبران أيضاً: " إن علياً لمَن عمالقة الفكر، والروح، والبيان في كل زمان ومكان".
 - الأديب والمفكّر ميخائيل نعيمة:
يقول ميخائيل نعيمة عن سبب تعلّقه بالإمام عليّ عليه السلام والكتابة فيما يخصّه: "عليّ سيد العرب على الاطلاق بلاغة، وحكمة، وتفهماً للدين، وتحمّساً للحق، وتسامياً عن الدنايا. فأنا ما عرفت في كل من قرأت لهم من العرب، رجلاً دانت له اللغة مثلما دانت لابن أبي طالب، سواء في عظاته الدينية وخطبه الحماسية، ورسائله التوجيهيّة، أو في تلك الشذور المقتضبة التي كان يطلقها من حين الى حين، مشحونة بالحكم الزمنيّة والروحيّة، متوهّجة ببوارق الإيمان الحيّ، ومدركة من الجمال في البيان حد الإعجاز، فكأنّما اللآلئ بلغت بها الطبيعة حد الكمال، وكأنّه البحر يقذف بتلك اللآلئ دونما عنت او عناء". 
ويقول أيضاً: "ليس بين العرب من صفت بصيرته صفاء بصيرة الإمام عليّ، ولا من أوتي المقدرة في اقتناص الصّور التي انعكست على بصيرته وعرضها في إطار من الروعة هو السحر الحلال. حتى سجعه، وهو كثير، يسطو عليك بألوانه وبموسيقاه ولا سطو القوافي التي تبدو كما لو انها هبطت على الشاعر من السماء، فهي ما اتخذت مكانها في اواخر الأبيات إلا لتقوم بمهمة يستحيل على غيرها القيام بها. إنها هناك لتقول اشياء لا تستطيع كلمات غيرها ان تقولها، كالغلق في القنطرة. إن عليّاً لمن عمالقة الفكر، والرّوح، والبيان في كل زمان ومكان".
 
- الأديب والمفكّر خليل فرحات:
يجيب على تساؤلنا الأديب خليل فرحات، إذ لم يكن ذلك محض صدفة، بل كان تجليّاً لأمير المؤمنين (عليه السلام) في حياة هذا المفكّر الوجداني الذي تعلّق به، ومن لا تستهويه شخصيّة أمير المؤمنين إلا من نُزعت من قلبه الإنسانيّة والمحبّة؟ فهو المسيحيّ المتمسّك بنصرانيّته، المعتزّ بانتمائه، "لكنّ عليّ يخصّ الجميع"، هكذا كان جوابه لمن حاول الغمز بعقيدته بعد نشر ديوانه "في محراب علي". فقد أصيب خليل فرحات بداء استعصى شفاؤه، فقرر الاطباء بتر ساقه من تحت الركبة. في الليلة السابقة لموعد اجراء العملية نام أهل بيته على همّ ذاك الألم المادّي والمعنويّ المرافق للبتر. لكن خليل فرحات كان مطمئناً جداً، كان يعرف أنّ له وسيلة إذا تقرّب بها إلى الله لن يردّه خائباً. هي عقيدة ترسخّت عنده بعد شواهد كثيرة سمعها من هنا وهناك خلال تحقيقه عن أخبار أمير المؤمنين (عليه السّلام)، أناس شفاهم حبّ عليّ، فكيف لا يشفيه هذا الحبُّ وهو الذي نذر أن يزور حبيبه في النّجف الأشرف إنّ تمّ له الشّفاء؟ فعليّ لا يعرف طائفة، ولا مذهباً، هو صفاءٌ خالص يعتري قلوب الوالهين بحبّه، فيحولهم من أتباعٍ إلى سادة، وهذا ما حصل مع خليل فرحات.
يقول الشاعر نجيب جمال الدين ناقلا عن لسان خليل فرحات: "بقيت يا صاحبي عشرة أيام، ورجلي هذه، وأشار إلى اليسرى، مرفوعة إلى العلاء بحبل، بعد أن احتبس فيها الدم واعتصم، وأبى أن يدور، وذلك بسبب انخفاض السكر أو ارتفاعه لا أدري، وتهدّد الجسد كلّه، لا الرجل فقط. عندها اجتمع الأصدقاء من الأطباء إليّ في البيت، وكان القرار بالقطع، لم أعترض إنَّما قلت: لديّ مشوار إلى عليّ، فإن قطعتم، فكيف أمشي؟ لم يفهموا.. إلا صديقتك جورجيت -يعني السيدة قرينته- فقد قالت: كفى بربك! ودعنا الآن من الشعر، فالمسألة فيها حياتك، يعني نحن جميعًا! وأجبتها: ولأنها كذلك، فهذا موقفي! وأكمل: ثم انصرفوا، وبعد يوم واحد، فككت رجلي من المشنقة، وقمت ولم أعُدْ بعدها للفراش، أفلا ترى أنَّ الإمام هو الذي أمرني بالرحلة، فكيف أتخلّف! ثم ألا ترى أنَّه كان كما أحب، فكيف لا أكون كما يُحبُّ، وبخاصّة كما يحب! وأضاف: يا أبا فيصل، لن توحش الطريق، ما دام فيها ذلك الرفيق! ثم كتب بعد ذلك ديوانه "في محراب علي".
تقول شيراز ابنته حين سئلت عن قصّة أبيها مع الإمام: "هي قصة إيمان، وثقة بربنا، ووالدي كان يقول إن الله لكل الطوائف، بحيث كل شخص يسير في استقامة مع الله، سيجيبه الله وسيساعده ويلبي طلباته، فلو لم يعش الإمام علي في تلك الأيام، حياة كلها طاعة لله الذي يعبده، لم يصل إلى ما وصل إليه".
 
- الأديب والفيلسوف جورج جرداق:
 لا شكّ بان الامام علي بن ابي طالب قد تعرّض للظلم في زمانه، فبدل أنّ يقدّسه المسلمون حاربوه، بل وقتلوه، فهل يا تُرى يستطيع الادباء أن ينصفوه؟ ربّما أحبّه الكثيرون، لكنّه لم يحظَ بعدُ بالحبِّ المكافئ لمقامه، فما زال هناك من يُزوّر الحقائق الدّامغة ليضعف روايةً هنا، ويبطل حديثاً هناك في فضل أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولأنّ الشعر هو الدّعامة الكبرى للأدب، ولأنّ الشعراء لا يهتمّون بالأسانيد والتراجم وعلوم الجرح والتعديل، فيحق لهم ما لا يحقّ لغيرهم. من هنا انطلق جورج جرداق ليسبغ على شعره ونثره نوراً من فيض أنوار المؤمنين. لم يأبه لديانة، ولا لطائفة، ولا لمحب ولا لمبغض، فقد غمره نور محبّة الإمام، فانطلق يسطّر موسوعة (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) المكوّنة من خمسة أجزاء، تعملق بها، فطال السّحاب.
لكأنّما جورج جرداق صائد كنوز، ولكأنّ فلسفة الإمام كنز مخفيّ لم يكتشفه الكثيرون ممن مرّوا على ظواهر أمير المؤمنين (عليه السلام)، ففاتتهم بواطنه. إذ اعتبر جرداق أن أحداً لم ينتبه الى ما في فكر الإمام من إنسانيّة جديدة على الفكر الإنساني عموماً والعربي خصوصاً. فكرٌ بعيد جدا عن العصبيّة القبائلية، والعشائرية الطائفية، فجديرٌ إذا بمفكرٍ مسيحيّ أن يتصدّى لفكر الامام عليّ بن ابي طالب، أحد أبرز رموز الإسلام، ليُظهر للعالم أجمع أنّ فكر عليّ لا يختصّ بأحد، بل هو تراث عالميّ إنسانيّ يجب أن يأخذ نصيبه من التمجيد، والتعظيم.
كتب جرداق في أمير المؤمنين موسوعة من خمسة أجزاء تجاوزن آلاف الصفحات من سيرته الشريفة، والجميل فيها أنّها لم تتطرّق مطلقاً لما كُتب سابقاً في أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإنّما أبدع فيها بالمقارنة بين علي وأرسطو، وعليّ ومفكري الثورة الفرنسيّة، فجاء نتاجه عظيماً متكاملاً، موضوعيّاً وعملياً، بعيداً عن المبالغة والغلو، فكان مرجعاً خالداً لمن يحبّ أن يتزوّد من معين تلك الشخصيّة العظيمة.
 
- الشاعر بولس سلامة:
ألف الشاعر بولس سلامة قصيدة من ألف بيت في مدح أمير المؤمنين، ولا عجب في ذلك، فقد استعصى مرضه على الأطباء، فما وجد له من شافٍ سوى التزلّف لأمير المؤمنين بقصيدة تكاد لا تنتهي، كانت من عيون الأدب العربي.
 
طبعاً هذا غيض من فيض ما جاد به الأدباء والكتّاب والمفكرون المسيحيّون في وصف مناقب وخصال أمير المؤمنين، ونستطيع أن نسرد عناوين أهمّ الأعمال المنشورة شعرًا ونثرًا، بحسب تعاقبها الزمني في الصدور هي:
- كتاب الأديب والسياسي أمين نخلة (1901-1976م) الموسوم بعنوان: (كتاب المئة) الصادر سنة 1931م، يضم مئة كلمة مختارة من كلمات الإمام علي (عليه السلام).
- كتاب الأديب والأكاديمي فؤاد أفرام البستاني (1904-1994م) الموسوم بعنوان: (نهج البلاغة درس ومنتخبات) الصادر سنة 1932م.
- ديوان الأديب والقاضي بولس سلامة (1902-1979م) الموسوم بعنوان: (عليّ والحسين) الصادر سنة 1946م، وديوانه الثاني الموسوم بعنوان: (عيد الغدير) الصادر سنة 1949م.
- موسوعة الأديب جورج جرداق (1913-2014م) الموسومة بعنوان: (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) الصادرة في النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين، المكوّنة من خمسة أجزاء، وضم لها لاحًقا جزءًا سادسًا بعنوان: (روائع نهج البلاغة).
- كتاب الأديب سليمان كتاني (1912-2004م) الموسوم بعنوان: (الإمام علي نبراس ومتراس) الصادر سنة 1967م.
- كتاب الأديب والدبلوماسي نصري سلهب (1921-2007م) الموسوم بعنوان: (في خطى علي) الصادر سنة 1973م.
- ديوان الأديب خليل فرحات (1919-1994م) الموسوم بعنوان: (في محراب علي) الصادر سنة 1991م.
- ديوان الأديب جورج شكور الموسوم بعنوان: (ملحمة الإمام علي) الصادر سنة 2007م.
- كتاب الأديب سعيد عقل (1912-2014م) الموسوم بعنوان: (عليّ والحسين في الشعر المسيحي) الصادر سنة 2009م.
يضاف إلى هذه الأعمال، نصوص وقصائد متفرّقة لأدباء منهم: جبران خليل جبران (1883-1931م)، ومخائيل نعيمة (1889-1988م)، وفؤاد جرداق (1912-1965م)، جوزيف الهاشم، غسان مطر، ريمون قسيس إلى جانب آخرين كذلك.
يتكشّف من هذا التوصيف أن الذين ساهموا في وضع هذا النسق الأدبي هم من الأعلام الكبار، الذين لهم مكانتهم الأدبية والشعرية الرائدة والمرموقة، إنّهم من جيل الرواد الذين غطّت شهرتهم وطافت لبنان، وامتدت إلى ما هو أبعد من المجال العربي، الأمر الذي يضاعف من القيمة الاعتبارية لتلك الظاهرة، ويرفع من وزنها الأدبي، ويجعلها في مصاف الظواهر الأدبية المميّزة وغير العادية، بما يؤكّد ضرورة العناية بها والاهتمام.
كما يتكشّف من هذا التوصيف كذلك مدى عمق الامتداد لهذه الظاهرة الأدبية مكانيًّا وزمانيًّا وطائفيًا، فمن جهة المكان غطّت الأسماء المذكورة العديد من بلدات لبنان، منها: بشري وبسكنتا وجبيل شمالًا، وجزين ومرجعيون جنوبًا، وزحلة شرقًا، وامتدت إلى المهجر خارج لبنان، واشترك فيها اثنان من كبار أدباء لبنان هما الزميلان والرفيقان: جبران خليل جبران ومخائيل نعيمة، واقترب منها كذلك الأديب أمين الريحاني (1876-1940م).
ومن جهة الزمان يتبيّن لنا من السرد السالف ذكره أن هذه الظاهرة ترتد وجودًا إلى ثلاثينات القرن العشرين، وبقيت وتواصلت على امتداد سبعة عقود من القرن الماضي، فقد ظل حبلها ممدودًا تتصل حلقاتها وتتباعد أحيانًا لكنها لم تنقطع أو تتوقّف، ومع غياب معظم الأسماء المذكورة بدأت تلك الظاهرة بالتقلّص والانكماش لكنها لم تنتهِ كليًّا.
ومن جهة الطائفة، فقد تخطت الأسماء المذكورة المذهب الواحد، وتوزعت انتماء إلى أكبر مذهبين في الديانة المسيحية هما: الكاثوليك والأرثوذكس، لكن الأكثرية منهم كانوا ينتسبون إلى المذهب الماروني الكاثوليكي، لكونه مذهب الأغلبية المسيحية في لبنان، والمتوزّع جغرافيًّا على امتداد مساحة لبنان.

 

بهذا يتبيّن أننا أمام ظاهرة أدبية ناضجة ومميّزة، لها وزنها الاعتباري، وثقلها الأدبي، وعمقها الزمني، وتخلُّقها الإنساني، وتنتسب إلى أشخاص هم من طبقة الأدباء الكبار، ويعدّون من الأسماء اللامعة في الأدب العربي الحديث، مع ذلك ظلّت هذه الظاهرة بعيدة عن العناية والاهتمام بحثًا وتدوينًا، ولم تدرس بالقدر الكافي، الملاحظة التي أشار إليها كل من تنبَّه لها.
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى