منْ هُوَ الامامُ عليُّ بنُ ابي طالب؟ ولِمَ يُعِدُّهُ الفلاسفة إنسانًا عظيمًا؟

2021.06.26 - 02:24
Facebook Share
طباعة

 في العادة، يُعجبُ المتديّنونَ برموزهمُ الدينيّة، ويمجِّدونَها ويُعْلُونَ مِنْ قَدْرِها، بلْ يبالغونَ في وصفِ شخصيّاتِها.
إلّا الامامُ عليُّ بنُ ابي طالبٍ، الرمزُ الاسلاميُّ الذي حاربهُ حكامُ الإمبراطورياتِ التي هيمنتْ على الدولةِ الإسلاميّةِ بعدَ استشهادِه، وشوَّهَ صورتَهُ واسمَهُ وسمعتَهُ واقوالَهُ وخطبَهُ أباطرةٌ وملوكٌ حكموا هذِهِ الدولةَ طوالَ مئاتِ السنين. ومَعَ ذلكَ، لمْ يستطيعوا إخفاءَ أنوار حقيقتِهِ، مَعَ تشكيلِ أغلبهم جماعاتٍ، خاصةً من الكتّابِ والمؤلّفينَ والمؤرّخينَ، لتشويهِ أقوالِ الإمامِ، وللانتقاصِ مِنْ شخصِهِ، وصولًا إلى اختراعِ أقوالٍ لمْ يقلْهَا، وخُطَبٍ لمْ يُلْقِهَا، وذمٍّ بالبشرِ لمْ يعتقدْ بهِ البتّة.
بلِ اخترعوا وألّفوا لهُ أقوالًا تزعُم أنّه قالَها في وصفِ نفسِهِ، وهو أشدُّ البشرِ تواضعًا واكثرُهُم إنكارًا للذّات.
لكنّها اعمالُ الملوكِ الّذين أرّقَهُم عليٌّ، النموذجُ الإنسانيُّ ناصعُ البياضِ وكاملُ العدالة، مقابلَ بطشِهِم بالنّاسِ وحكمِهِم للبشرِ بالقوّةِ والجبرِ والإكراه.
لذا، سنجدُ في "نهجِ البلاغة"، وفي غيرِه مِنَ الكتبِ ما لا يصدّقُه عقلٌ من أنّ إمامَ العقلاءِ عليًّا بنَ أبي طالبٍ عليهِ السلام قدْ قال كلامًا مماثلًا، مِنْ مثلِ الزّعمِ أنهُ ذمَّ النّساءَ ووصفهنّ بناقصاتِ العقلِ، أو مثلِ قولِهم في زعمِهِم عنهُ أنّ الإمامَ – معاذَ اللهِ العليِّ القدير – قدْ وصفَ نفسَهُ بصفاتِ التبجيلِ والخَلقِ والصّنعِ، وهُوَ الّذي قالَ مئاتِ المرّاتِ إنه ليس سوى عبدٍ مِنْ عبادِ اللهِ، واستغفرَ ربّه مرارًا بسبب ما يُنقل عنهُ، ومَعَ ذلكَ دسَّ المغرضونَ السمَّ في عسلِ بلاغةِ الإمامِ، ووقعَ في الخطأِ مَنْ جمعَ أقوالَهُ في كتابٍ جامِع.
ولِمَنْ لا يعرفونَ الإمامَ مِن قرّائِنا الأحبّةِ في روسيا وأوروبا، وفي مختلفِ بلادِ العالمِ نقول:
إنه الرجلُ الّذي عدّتْهُ منظّمةُ الأونيسكو الأمميّة "الحاكمَ الأكثرَ عدلًا في تاريخِ البشر".
وهُوَ أيضًا منْ يُعِدُّهُ فلاسفةُ أوروبا وعظماءُ المسيحيّةِ مِنْ أعظمِ الخلقِ، وكلامُهُ تحتَ كلامِ اللهِ إلا أنّهُ فوقَ كلامِ البشرِ، كما يصفه الشاعرُ والمفكّرُ اللبنانيّ جورج شكّور.
(فضلًا راجعْ مقابلةَ الاستاذ شكّور مع مؤسسةِ الامامِ عليّ بنِ ابي طالب للتوثيق في قسم الفيديو. وأيضًا يمكنكم متابعة الكثير من أقوالِ الفلاسفةِ في قسم "قالوا في الامام").

 

مولدُه:
وُلدَ الامامُ عليهِ السلامُ في العقدِ الثاني مِنَ القرنِ السابعِ الميلاديّ في جزيرةِ العربِ بمكةَ المكرمة، التي كانت مدينةً صغيرةً وسَطَ محيطٍ مِنَ الصحاري. وكان اهلُهَا مِنَ التّجّارِ الأثرياءِ والى مدينتِهِم يحجّ سكانُ الجزيرةِ العربيّةِ (المملكة العربية السعودية واليمن وعمان والامارات وقطر والبحرين والكويت حاليًا)، للتعبّدِ في مكانٍ يسمّى الكعبةَ المشرّفةَ، التي كان العربُ يعتقدونَ - ولا يزالونَ - أنّها مسجدٌ بناهُ النّبيُّ إبراهيمُ وابنُه إسماعيلَ في تلكَ المنطقةِ، قبلَ ثلاثة آلافِ عامٍ مِنَ الميلاد.
كانَ والِدا الامامِ منْ اتباعِ الدّيانةِ التّوحيديةِ الحَنيفيّةِ، الّتي تتبعُ للنّبيِّ إبراهيمَ، فيما كلُّ العربِ في تلكَ المنطقةِ ومحيطِها كانوا مِنَ الوثنيِّينَ عَبَدَةِ الاصنامِ، وإن عرفوا اللهَ العليَّ القديرَ إلا أنهم كانوا يعدّون الأصنامَ آلهةً لها سلطةٌ وشراكةٌ مَعَ اللهِ العليِّ القدير.
وكانَ في مكةَ، وفي الجزيرةِ أيضًا، قلّةٌ مِنَ المسيحيّينَ واليهودِ يعيشون جنبًا إلى جنبٍ مَعَ المشركينَ والوثنيّينَ والأقليّةِ المؤمنةِ بدينِ النّبيِّ إبراهيم.
ولأنّ النسبَ أمرٌ مُهِمٌّ عندَ العربِ، فقدْ وُلد الامامُ من أبويَيْنِ من بني هاشِمَ، وهم نبلاءُ قبيلةِ قريشٍ، التي كانتْ تحكُمُ مدينةَ مكةَ، التي يحجّ اليها كلُّ سكانِ الجزيرةِ العربيةِ - كما أسلفنا- للتعبدِ وللتجارةِ أيضًا.
وكان مولدُهُ عليهِ السلام في جوفِ الكعبةِ، التي هِيَ قِبْلَةُ الإسلامِ الّتي كان العربُ يتوجّهونَ إليها قبلَ الإسلام في صلاتهم، ويتوجّهُ اليها المسلمونَ أيضًا في صلاتِهِم. ولأنّه وُلِدَ في جوفِ الكعبةِ، قبلةِ الاسلامِ، فقد عدّ نبيُّ الاسلامِ محمدٍ - صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلم - وعائلتُهُ الكبيرةُ، بنو هاشم، أنّ في هذا إشاراتٍ خاصّةٍ مِنَ اللهِ العليِّ القدير.
تسميتُه:
سُمّيَ بعليٍّ، وهذا الاسمُ نادرٌ جدًا في العرب، بلْ هناكَ مِنَ المؤرِّخينَ مَنْ يقولُ إنّهُ أولُ مَنْ تَسمّى بِهِ، ولمْ نجدْ إلّا اسمَ عليٍّ بنِ صعبٍ بنِ بكرٍ بنِ وائلٍ مِنْ ربيعةَ يتشبَّهُ باسمِ الإمامِ، ولكن يذكرُ بعضُ المؤرّخينَ أن ملوكَ العربِ الّذينَ استولوا على الدولةِ الإسلاميةِ بعدَ وفاةِ الرّسولِ، مِنْ أمثالِ بني اميّةَ وبني العباس، ألّفوا الأكاذيبَ عبرَ كتّاب استأجروهُمْ وعبرَ مؤرخينَ جنّدوهم، للزّعمِ أنّ هناكَ قبلَ الامامِ مَنْ تسمّى بهذا الاسم(فضلًا، مراجعة كتاب المؤرخِ الأندلسيّ في سيرةِ الامام علي بن ابي طالب عليه السلام).
وينقلُ كتّابُ سيرةِ الامامِ عليه السلام عنْ والدِهِ أبي طالبٍ قولَه: " قدْ سمّيتُهُ بعليٍّ كيْ يدومَ لهُ عزُّ العلاءِ وخيرُ العزّ أدومُه". وقدْ كانَ الامامُ عليٌّ عليًّا في كلِّ شيءٍ إلّا في أمورِ الدنيا الّتي لا قيمةَ لها في نظرِه.
إيمانه برسالة النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه وآله:
هوَ أولُ مَنْ آمنَ بالرسولِ على الإطلاق، وقد تربّى في منزلٍ مؤمنٍ باللهِ الواحدِ العليِّ القديرِ، لكنْ كلُّ البيئةِ المحيطةِ بهِ كانتْ وثنيّةً تعبدُ الاصنامَ، إلا أنّ الامامَ عليهِ السلام لمْ يسجُدْ لصنمٍ قطّ، ولهذا يقولُ المسلمونَ بعدَ ذكرِ اسمِهِ: "كرّم اللهُ وجهَه"، لأنّه صانَهُ عنْ عبادةِ الصنمِ في بيئةٍ وثنيّة.

الفدائيُّ الأولُ في الإسلام:
قبلَ أنْ يتحوّلَ العربُ طواعيةً إلى الإسلام، لا عبرَ الغزوِ والعُدوان، كان النبيُّ ومنْ مَعَهُ في مكّةَ لا يزيدون على مئةِ شخص، أغلبُهُم مِنَ الرقيقِ المستعبَدينَ ومِنَ الضعفاءِ والفقراءِ وبضعةٍ من عائلتِهِ النبيلةِ، بني هاشم، وهم قلّةٌ قليلة جدًا. لذا، خيّرت قريشُ، القبيلةُ الثريّةُ والغنيّةُ، النبيَّ بينَ جعلِهِ ملكًا عليهم ومنحِه الأموالَ، شرطَ التنازلِ عن الدعوةِ إلى اللهِ، وبينَ أنْ يُقتلَ أو يطردَ أو يُحاصَر.
وقدْ قرّرتْ قريشُ، بعدَ سبعِ سنواتٍ مِنْ بدْءِ الرّسولِ الدعوةَ لرسالتِه في مكةَ، أن تطردَ النبيَّ إلى جبلٍ قريبٍ يملكُ قطعةَ أرضٍ فيهِ عمُّه أبو طالبٍ، والدُ الإمامِ عليّ، وحوصرَ النبيُّ ومَنْ مَعَهُ مِنَ المسلمينَ الأوائلِ في تلكَ الارضِ التي لا ماءَ فيها ولا زرعَ ولا طعامَ ولا طيورَ، وكانوا قرابةَ مئةِ شخصٍ مَعَ عوائلِهِم، قررتْ قريشُ أن تقاطعَهُم في أوّلِ عقوبةٍ اقتصاديةٍ في التاريخ ربما، فلا تبيعُهم شيئًا ولا تشتري منهم. وقد كانَ الإمامُ - عليه السلام-، وهو فتًى لمْ يتجاوزِ العقدَ الثانيَ بعد، ينزِلُ منَ الجبلِ إلى المدينةِ مخاطِرًا بنفسِه مَعَ آخرينَ لنقلِ الماءِ والطعامِ إلى المحاصَرينَ في شُعَبِ أبي طالب. وعلى هذِهِ الحالِ، بقيَ المسلمونَ الأوائلُ ثلاثَ سنواتٍ، كان النبيُّ فيها معرَّضًا للقتلِ والاغتيالِ بشكلٍ يوميّ، يترصدُهُ قتَلَةٌ مأجورون تابعون لقادةِ قريشٍ، المتخوِّفينَ مِنَ النّبيّ، لأنّهم سيخسرونَ تجارتَهُم لوْ آمنَ العربُ، ومُنعَت عبادةُ الأصنامِ. فكلُّ العربِ يزورونَ مكةَ لعبادةِ الأصنامِ، فإنِ انتصرَ الاسلامُ ونبيُّهُ سيتوقفُ العربُ عن زيارةِ مكةَ وتتوقفُ تجارةُ قريشٍ، هذا ما ظنّهُ سادةُ قريشٍ وأثرياؤُها.
وقدْ سجّلَ التاريخُ أن الامامَ عليًّا بنَ أبي طالبٍ - عليهِ السلام-، كانَ في سنواتٍ ثلاثةٍ منَ الحصارِ، يتبادلُ مَعَ شقيقيهِ، جعفرٍ وعقيلٍ، النّومَ في فراشِ النّبيّ حتَى يخدعوا مَنْ يتجسّسُ على النّبيّ بهدفِ قتلِهِ ليلًا.
حتّى انقضى الحصارُ وحانَ بعدَهُ وقتُ الرّحيلِ عن مكةَ إلى مدينةٍ أخرى، وكانتْ قريشٌ قدْ جهّزتْ فِرْقةً لاغتيالِ النّبيِّ مؤلَّفةً من فرسانٍ من قبائلَ شتى حتّى يضيعَ دمُهُ بينَ القبائلِ، فلا يدري أهلُه ممّنْ يطلِبون ثأرَه، على عادةِ العربِ في الانتقامِ ذاكَ الزمان.
وفي ليلةِ هجرةِ الرّسول - صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وآلِه - من مكةَ الى " يثربَ" عبرَ الصحراءِ، بات الامامُ عليٌّ في منزلِ النّبيِّ وعلى فراشه ليفديَهُ، في حادثةِ الهجرةِ المشهورة، حتى نُقل عن النبيّ الأكرمِ قولُه إنّ الملائكةَ كانتْ تتعجبُ من شجاعةِ عليًّ – عليه السلام -
زواجُه:
في سنواتِ الإمامِ عليٍّ الأولى عاشَ مع والديه، ولكنْ حينَ بلغَ الثامنةَ مِنْ عُمُرِهِ أُصيبَ والدُهُ بانتكاسةٍ ماليةٍ، وأصبحتْ اوضاعُهُ صعبةً جدًّا، ولمْ يستطعْ إعالةَ أبنائِهِ الكُثُرِ، فتوزّعَ إخوةُ أبي طالبٍ وابنُ شقيقِهِ النبيِّ محمدٍ أولادَ أبي طالب، وكانَ الإمامُ منْ نصيبِهِ العيشَ ربيبًا للنبيِّ محمدٍ، ينامُ في حِجْرِهِ ويتربّى في بيتِهِ. فلمّا نزلَ الوحيُ الإلهيُّ على رسولِ اللهِ في غار حراء في جبل النور قرب مكة، وكان الإمامُ عليٌّ أوّل المؤمنين به من الذكور(بعد السيدة خديجة بنت خويلد).
ولأنّهُ كاتبُ وحيِ اللهِ العليِّ القديرِ، ولا أحدَ سواهُ عرفَ تفسيرَ آياتِ القرآنِ كاملةً، كما تلقّاها مِنْ رسولِ اللهِ - صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وآلِهِ - فقدْ كان حتى زواجُهُ مميّزًا، إذْ كانَ فقيرًا جدًّا وعاملًا مياوِمًا يعيشُ منْ كدِّ يمينِهِ، ولمْ يكنْ تاجرًا أو مالكَ ثروة، وفيما تقدمَ لخِطبةِ ابنةِ رسولِ اللهِ، السيدةِ العظيمةِ فاطمةَ - عليها السلامُ-، أكابرُ المسلمينَ منْ زعماءَ وأثرياءَ، رفضَهم رسولُ اللهِ جميعًا، وكان ردُّهُ الوحيدُ أنّه ينتظرُ أمرَ الله في زواجِها، لتتزوجَ – بأمرِ اللهِ تعالى – عليًّا الفقيرَ، الذي باعَ درعَهُ التي يحمي بها نفسَهُ في الحروبِ، لكيْ يقدِّمَ ثمنَهُ مهرًا لزوجِهِ، وقد كانتِ ابنَةَ الحاكمِ والآمرِ النّاهي في يثربَ في تلكَ المرحلةِ، ومع هذا تزوجتْ عليًّا عليهِ السلام، لأنّهُ الأطهرُ والأتقى، لا لأنّه الأغنى، وقد كانَ هذا الأمرُ تدبيرًا مِنَ اللهِ العليِّ القديرِ حتّى تنحصرَ ذريَّةُ النبيِّ – عليه صلاةُ اللهِ وسلامُه وعلى آلِه – في أبناءِ الإمامِ والسيدةِ فاطمةَ، فلمْ يعِشْ أيٌّ مِنْ أولادِ النّبيِّ، الذكورِ والإناث، إلا فاطمة، وكلُّ ما يُقالُ عن بناتٍ لرسولِ اللهِ فإنهنّ لَسْنَ بناتِهِ، بلْ بناتِ زوجاتِهِ، وابنتُهُ الوحيدةُ هي ابنةُ السيدةِ خديجةَ بنتِ خويلدٍ، السيدةُ فاطمةُ الزهراء، زوجةُ الإمامِ عليٍّ عليهِ السلام.
بطولاتُه الفكريةُ وشجاعتُهُ العسكريّة:
خاضتْ قريشٌ حروبًا عُدوانيّةً على المسلمينَ بعدَ رحيلِهِم عنْ مكةَ إلى مدينةٍ أخرى، تقبلتْهُم وآمنَ أهلُها بنبيِّ اللهِ وصاروا مسلمينَ طَواعيّةً ومحبةً وإيمانًا. فكانتِ الحربُ الأولى بسببِ سرقةِ القريشيينَ أملاكَ المسلمينَ في مكةَ ومحاولتِهِم بيعَها وبيعَ منْ بقِيَ مِنْ أبناءِ المسلمينَ في سوقِ العبيدِ في الشّام. فمرّتْ قوافلُ قريشٍ الّتي تحوي المسروقاتِ قرب المدينة، في طريقِها إلى البيعِ في الشّام، فتصدّى لها المسلمونَ محاوِلينَ اللّحاقَ بها فكانتْ أولَى المعاركِ، معركةُ بدرٍ الّتي قَتَلَ فيها الامامُ عليٌّ وحدَهُ نصفَ فرسانِ المشركين.
وقدْ كانَ الامامُ لا يبدأُ قتالًا، ويعرِضُ على خصومِهِ انْ يتركوا الحربَ وانْ يختاروا السّلمَ، وكان يحاورُهُم ويُعلِمُهُم أنما هُوَ يقاتلُ للهِ العليِّ القديرِ، لا لشخصِهِ ولا لمجدِهِ، وأن دينَهُ يأمرُهُ بعدمِ ارتكابِ العُدوانِ، ويقبلُ منهمُ السّلمَ إنْ جَنَحوا لهُ وتركوا الحربَ، فإنْ قرّروا العِنادَ وقرّروا استمرارَهُم في العُدوانِ، حينَها فقطْ يقاتلُهُم.
وقدْ كانَ هُوَ الّذي قَلعَ بابًا في حِصنٍ ضخمٍ يُسمّى "خَيْبَر". وكانَ لا يستطيعُ جماعةٌ مِنَ الناسِ أنْ يحرّكوه، ويُقالُ إنّهُ كانَ يحتاجُ إلى عشرينَ رجلًا لفتحِه.
وكانَ في ذلكَ الحِصنِ رجلٌ مخيفٌ، يؤمنُ أتباعُهُ بأنّهُ لا يموتُ، وأنهُ سيعيشُ أبدًا، واسمُهُ مَرحَبٌ، وهُوَ فارسُ فرسانٍ مِنْ طائفةٍ قديمةٍ مِنَ اليهودِ الّذينَ قاتلوا المسلمينَ وتآمروا عليهِم مَعَ المشركينَ، مَعَ وجودِ معاهدةِ الأخوّةِ بينَهُم وبينَ المسلمين. وقدْ قتلَ الإمامُ مَرَحبًا الخَيْبَريّ.
ومِنْ قبلِهِ كان الإمامُ محاصرًا مَعَ المسلمينَ في "يثرب"، التي تحوّل اسمُها إلى "المدينة المنورة"، وجاءتْ قريشٌ بعدَ حربينِ، هما بدرٌ وأُحُد، وقدْ جمعتْ جيشًا ضخمًا بقيادةِ فارسِ فرسانِ العربِ، المدعوّ عمرُ بنُ عبدِ وِدٍّ، الشهيرِ بقاتلِ الألفِ، أيْ أنّه يقاتلُ كأنّه ألفُ رجل.
وقدْ تحدّى عمرٌو بنُ عبدِ وِدٍّ العامريُّ المسلمين، فهربَ فرسانُهُم عنْ مبارزتِهِ، وهُوَ مازالَ يدعوهُم عشراتِ المراتِ، وبسببِ قوّتِهِ وجبروتِهِ وسمعتِهِ بينَ العربِ لمْ ينازلْهُ أحدٌ، وفي كلِّ مرّةٍ يقِفُ عليٌّ ويقولُ لرسولِ الله - صلواتُ اللهِ عليهِ وآلِه -: "أنا أبارزُهُ يا رسولَ الله" (فضلًا، أُنظرْ تاريخَ الطبريّ والمغازي)، حتى أَذِنَ لهُ رسولُ الله - صلواتُ اللهِ عليهِ وآلِه - فانهزمَ العامريُّ، ونعتْهُ شقيقتُه الّتي تفاخرتْ بأنَّ مَنْ قتلَهُ فارسٌ أعظمُ منهُ، ورجلٌ أشرفُ وأنزهُ مَنْ في العربِ، هو عليٌّ بنُ أبي طالبٍ عليهِ السلام.
اخلاقه في الحروب:
لم يبدأِ الإمامُ حربًا، ولا غزا بلدًا ولا اعتدى على أممٍ، ولا أجبر شعبًا على اعتناقِ الدّينِ كما فعلَ من سبقوهُ ومن جاؤوا بعدَهُ، بصفتِهِم خلفاءَ حاكمينَ للدولةِ الاسلاميّةِ الأولى.
وقيل: "إنّه لمْ ينهزمْ في معركةِ قطُّ، ولمْ يكرِّرْ ضربةَ قطّ. إذا ضربَ من أعلى قدَّ، وإذا ضربَ من الجانب قطَّ. و في الحديثِ كانتْ ضرباتُه وِترًا.
أمّا الشجاعةُ فإنّهُ أشدُّ النّاسِ ملاءمةً في اتّصافِه بها، ذَكَرَ مَنْ كانَ قبلَهُ ، ومحا اسمَ مَنْ يأتي بعدَهُ، ومقاماتُهُ في الحربِ مشهورةٌ، تُضربُ بها الأمثالُ إلى يومِ القيامة، وهُوَ الشجاعُ الذي ما فرَّ قطّ، ولا ارتاعَ مِنْ كتيبةٍ، ولا بارزَ أحدًا إلا قتلَه.
ففي حربٍ وقعتْ بينَه وبينَ المتسلِّطِ على حُكْمِ بلادِ الشّامِ، المدعوّ معاويةَ بنِ أبي سفيانٍ، في حربٍ سُمّيتْ بمعركةِ صفّين، قبلَ أنْ يبدأَ القتالَ دفعَ الإمامُ عليهِ السلامُ فرسَهُ إلى مقدّمةِ جيشِ معاويةَ، ثمّ نادى عليهِ ليبارزَهُ، حتّى لا يسقطَ ضحايا مِنَ الجيشينِ فتَحسِمُ الحربَ المبارزةُ بينَ قائدَيْها.
فقالَ أحدُ مستشاري معاويةَ، ويُدعى عَمْرُو بنُ العاص:
"لقدْ أنصفَكَ الرّجل".
فقال معاويةُ: "ما غشَشْتَني منذُ نصحتَني إلا اليومَ، أتأمرُني بمبارزةِ أبي الحسن، وأنتَ تعلمُ أنّهُ الشجاعُ المُطْرِقُ، أراكَ طَمِعْتَ في إمارةِ الشّامِ بعدي".
أي أنّ معاويةَ يعرفُ أن لا أملَ لأيِّ مبارزٍ بالفوزِ في مواجهةِ عليٍّ عليهِ السلام.
فلا يمكنُ أنْ تُوصفُ الشجاعةُ بأكثرِ مِنْ أنّهُ ما هربَ من مُبارِز، وكانَ - عليهِ السلام - يقولُ :
ما بارزتُ أحدًا إلّا وكنتُ أنا ونفسُه عليه.
وقيلَ له : يا أميرَ المؤمنينَ ألا تُعِدُّ فرسًا للفرِّ والكرِّ ؟
فقال عليه السلام: أمّا أنا فلا أفِرُّ ومَنْ فرَّ منّي فلا أطلبُه.
وقيلَ في كتبِ المؤرِّخينَ، المذكورةِ أسفلِ هذا المقالِ، أنّه كانَ - سلام الله عليه - "يُمسكُ بيدِ إنسانٍ حتّى لا يستطيعَ أنْ يتنفّس".
الهالةُ الّتي أحاطتْ بعليٍّ - عليهِ السلام - أوْ ما يُعبّر عنه في زمانِا :"الكاريزما".
فَهُو أزهدُ النّاسِ باعترافِ عمرٍ بنِ عبدِ العزيزِ الأمويّ، فقدْ قيلَ لهُ: أنتَ أزهدُ النّاس. فقال: لا بلْ أزهدُ النّاسِ الإمامُ عليٌّ بنُ أبي طالب.
وممّا يُخفيه المؤرخونَ عنِ الإمامِ - عليهِ السلام - أنّهُ هُوَ الّذي قَلَبَ وأنزلَ الصّنَمَ الكبيرَ "هُبَلَ العظيمَ" مِنْ ظهرِ الكعبة. وكان ذاكَ الصنمُ منحوتًا مِنْ صخرةٍ عظيمةٍ رفعَهَا ثلاثُمِئَةِ رجلٍ لتُنصبَ في الكعبةِ قبلَ قرون.
وفي حربٍ مَعَ أعدائِهِ احتجّ جيشُه بالعطشِ، لأنّ فُتحةَ نبعِ ماءٍ سُدّتْ بصخرةٍ، ولم تستطعْ كتيبةٌ فتحَ ذاكَ النبعِ، فحمل الإمامُ عليهِ السلام، متوكِّلًا على اللهِ العليِّ القديرِ، الصخرةَ ورماها بعيدًا عنِ الماء.
ولمْ تكنْ قوّةُ الإمام الجسديةِ مِنْ عضلاتِهِ، بلْ أتتِ القوةُ مِنْ قوةِ الإيمانِ ومِنْ قوةِ الرّوح.
وهُوَ قالَ عنْ نفسِهِ: "واللهِ ما خلعتُ بابَ خيبرَ بقوةٍ جسديةٍ، ولكنْ بقوةِ روحيّة"(هل الحديث موثق؟! – ملاحظة المدقق).
وقيل (المصدر السابق)؟؟!! أي مصدر؟ إنه أراد يومًا أنْ يكسرَ قُرصًا من الخبزِ فلمْ يستطعْ أنْ يكسرَهُ إلا بعدَ الاستعانةِ بيديهِ وركبتِه، فهي قوةُ الرّوحِ، لا قوةُ الجسم.


تقواهُ عنِ الفحشاء:
لا ينكرُ حتى أعداءُ الإمام - وما أكثرَهم - عبرَ التاريخِ أنه مِن عظماءِ الكونِ في عبادتِهِ ونُسُكِهِ.
هُوَ الّذي علَّمَ الناسَ كيفَ يرددون الأورادَ وذكرَ اللهِ العليِّ القديرِ فِي الخلوات.
وهُوَ الذي فسّرَ معنى الصلاةِ على النّبيِّ وكيفيتَها.
وهو الذي علّم الناسَ آدابَ الفروسيةِ التي لا تبتغي التباهيَ الشخصيَّ، بلِ الاحترافَ الأخلاقيَّ لأجلِ الحقّ قبلَ القوةِ البدنيّةِ والمهارةِ الحربيّة.
وقد تجلّتْ أخلاقُهُ - عليه السلام - أمامَ عدوِّهِ عَمْرٍو بنِ العاص في معركةِ "صفين"، وقد سقطَ عمرًوا بنَ العاص أرضًا وهُوَ يبارزُهُ، فلمّا أرادَ الإمامُ الإجهازَ عليه انقلبَ ابنُ العاص مُظْهِرًا قفاهُ وكاشفًا ملابسَهُ عنْ سوْءَتِهِ، وإلى هذا يشيرُ الشاعرُ أبو فراسٍ الحمدانيّ:
ولا خيرَ في دفعِ الردى بمذلّةٍ كما ردّها، يومًا بسوءتهِ "عمرُو"
وَنَحْنُ أُنَاسٌ، لا تَوَسُّطَ عِنْدَنَا لَنَا الصّدرُ، دُونَ العالَمينَ، أوالقَبرُ
فانصرفَ عنهُ الإمامُ عليٌّ، وهُوَ يعلمُ أنّ قتلَ عمرٍو بنِ العاص كانَ سيُنهي الحربَ بانتصارِهِ هُوَ، وقدْ كان عمرٌو أحدَ دهاةِ العربِ الأربع.
بلاغتُه:
حتى يومِنا هذا، لا يزالُ المفكرونَ جيلًا بعدَ جيلِ ينبهرونَ بأخلاقِ الإمام عليٍّ - عليه السلام - وببلاغتِهِ وفصاحتِهِ وإنسانيتِه. وتُنسبُ إليهِ أربعُمئةٍ وثمانونَ خطبةً، بينَ قصيرةٍ وطويلةٍ، كان يُوردُها على البديهة.
وقد جمعَ الشاعرُ والعالمُ المعروفُ، الشريفُ الرّضيُّ، خُطَبَهُ وإنتاجَهُ في كتابٍ معروفٍ باسمِ "نهج البلاغة"، وقسّمَه إلى ثلاثةِ أجزاء: الأولُ والثاني جمعَ فيهما خطبَه فقط، وفي الجزءِ الثالثِ جمعَ حِكَمَهُ وأجوبةَ مسائلِهِ ورسائلِهِ. ومن البديهيّ أن جمعَ الخطبِ والحِكَمِ شيءٌ، وتوثيقَها والتأكّدَ منْ أنّها كلُّها للإمامِ - عليه السلام - شيءٌ آخر.
بعدَ ذلِك، أتى ابنُ أبي الحديدِ، المتوفى في السنةِ الّتي دُحرَتْ فيها بغدادُ على يدِ التّتار سنة ٦٥٦ هجرية (١٢٥٨م)، وكانَ الخليفةُ المستعصمُ هاربًا، وكانَ لهُ وزيرٌ يُدعى مؤيّدُ الدين العلقميّ، فطلبَ مِنْ ابنِ أبي الحديدِ، وشجّعَهُ على أنْ يشرحَ "نهجَ البلاغةِ"، فأنفق أربعَ سنواتٍ كاملةٍ في كتابةِ شرح آثارِ الإمامِ عليٍّ بنِ أبي طالب.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى