قالوا في علي (ع) ج7

2020.08.12 - 04:18
Facebook Share
طباعة

 5. العقاد والإمام علي:
كشف العقاد في مقدمة كتابه (فاطمة الزهراء والفاطميون) الصادر سنة 1953م، عما أسماه أثر عامل الوراثة في عنايته بالكتابة عن الموضوعات الإسلاميَّة، وما اتصل منها بالعترة النبوية على التخصيص، فقد فتح أذنه كما فتح عينه على عبارات الحب الشديد للنبي عليه السلام واله، فمولد النبي كان حفلة سنوية تقام في بيتهم، ويترقبها مع بقية الصغار في سنه، ويفرحون بها، لأنهم القائمون بالخدمة فيها.
ويذكر العقاد أن أسماء النبي واله كانت تتردد بين جوانب بيتهم ليلًا ونهارًا، لأنها أسماء إخوته جميعًا، معدداً لهم بهذا النحو: محمد وإبراهيم والمختار ومصطفى وأحمد والطاهر وياسين، وفاطمة وهي شقيقته الوحيدة. لم يكن لأبيه أخوة، بل له شقيقتان، واحدة اسمها نفيسة، والثانية اسمها زينب. أما اسمه فهو منسوب إلى العباس عم النبي، لا إلى عباس حلمي الثاني كما كان يتوهم بعض معارفه. وصف العقاد ما ورثه من أسرته بالحب الشديد للنبي واله عليهم سلام الله ورضوانه.
ليس من المستغرب في نظره هذا الحب الشديد من أهل السنة، لكنه في بيتهم كان أشبه بالعاطفة النفسية منه بالآداب المذهبية، معتبرًا أنه استفاد من هذا الحبّ كثيرًا في دراسة تاريخ الإسلام، مما جعله شديد التريث في سماع كل دعوى من دعاوى السياسة القديمة التي كانت تقوم على إنكار حق، أو إنكار فضل، أو إنكار نسب، أو ما أشبه من ضروب الأفكار التي تمس تواريخ أهل البيت النبوي وسيرهم، من بعيد أو قريب.
ويندرج في هذا النطاق كتاب (عبقرية الإمام)، الذي جاء متصلًا بما قبله من كتب العبقريات من ناحية المنهج. العبقريات التي أراد منها العقاد أن يكون صاحب أدب متفرد، يصك باسمه، ويتفارق به عن غيره ويتمايز، محققًا إنجازًا بات يؤرخ له، ليس في تاريخ تطور الأدب المصري الحديث فحسب، وإنما في تاريخ تطور الأدب العربي الحديث أيضًا.
يفهم من نصوص العقاد أنه أراد من العبقريات فكرةً ومنهجًا، الالتزام بأمرين متلازمين هما:
الأول له علاقة بالمنهج، ويتحدد بالمفارقة ما بين المنهج التاريخي، والمنهج النفسي، فبحسب رؤية العقاد، أنه ليس بصدد اتباع المنهج التاريخي القائم على السرديات والحوليات، وتعقب الحوادث والأخبار، وإنما هو بصدد اتباع منهج آخر، يعرف في الأدب بالمنهج النفسي، ويراد منه رسم صورة نفسية لصاحب السيرة، تجلو من خلالها الخلائق، والصفات وبواعث الأعمال، وليس كتابة تاريخ يجري في سرد الحوادث، وتعقب الوقائع، بما هي وقائع، وتتبع الأخبار بما هي أخبار، وقد فرّق العقاد في كتاباته بين الدراسات التاريخية التي يعنى بها المؤرخ، وبين الدراسات النفسية مثل دراساته التي يعنى فيها بخلائق صاحب السيرة وصفاته.
الأمر الثاني: له علاقة بالخطاب، ويتحدد بالمفارقة بين الخطاب الذي يتجه إلى إنسان بعينه كالإنسان المسلم، وبين الخطاب الذي يتجه إلى كل إنسان، فبحسب رؤية العقاد أنه أراد أن يقدم أدبًا لا يخاطب به المسلم، ولا يتجه إليه فحسب، وإنما يخاطب به كل إنسان بالاحترام والتقدير والإعجاب للعبقريات أينما ظهرت في أي مجتمع، وفي أي زمان ومكان، بما تمثله هذه العبقريات من مناقب، وفضائل، ومثل يتوق إليها الناس كافة، ويتعلقون بها حبًّا وإعجابًا وتقديرًا.
وتجلى هذا الأمر بوضوح حين تحدث العقاد عن كتابه (عبقرية محمد) الذي هو من بواكير أدبه في العبقريات، شارحًا منهجه. نُشر ذلك في مجلة الفيصل العدد158، قائلًا: "إن عبقرية محمد عنوان يؤدي معناه في حدوده المقصودة ولا يتعداها، فليس الكتاب سيرة نبوية جديدة تضاف إلى السير العربية والإفرنجية... إنما الكتاب تقدير لعبقرية محمد بالمقدار الذي يدين به كل إنسان، ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يثبت له الحب في قلب كل إنسان، وليس في قلب كل مسلم وكفى، فمحمد هنا عظيم لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس، عظيم لأنه على خلق عظيم".
لاحقًا اعتُبر العقاد أنه صاحب مذهب في هذا اللون من الأدب، مُطلقًا صفة المذهب منسوبة إلى ذاته، لافتًا الانتباه لهذا المعنى عند حديثه عما يتوخاه من العبقريات قائلًا: "ومذهبنا الذي نتوخاه في الكتابة عن العظماء الذين حسنت نياتهم في خدمة الإنسان، أن نوفيهم حقهم من التوقير، وأن نرفع صورهم إلى مكان التجلة".
كان العقاد يحسب أن الالتزام بهذا المذهب في زمنه، أوجب مما كان في الأزمان الغابرة، وذلك بعد أن تكاثرت في نظره الأسباب التي تغض من وقار العظمة منذ القرن الثامن عشر، وتحدث في بعض الأحيان عفوًا، وقصدًا في أحيان أخرى، الوضع الذي وجد فيه العقاد أن العظمة في حاجة إلى ما يسمى في لغة القانون، برد الاعتبار.
بهذا يتكشف لنا أن العقاد يعد من أكثر الأدباء العرب المعاصرين تنبهًا لفكرة العبقرية، وأكثرهم توظيفًا لها في الأدب واستثمارًا، وتحديدًا في أدب السير والتراجم، كما أنها الفكرة التي مثلت نموذجًا تفسيريًّا لهذا النسق من الكتابات، واكتسبت صفة العلامة الدالة ثقافيًّا في أدبه، وجاء اختياره لها كونها من الكلمات المحتفى بها على المستوى الإنساني، باعتبارها تبرز جوانب العظمة والتفوق، وتثير الدهشة والإعجاب، وأراد منها العقاد أن تكون مدخلًا لتقديم بعض الشخصيات الإسلامية إلى الأدب الإنساني عامة.
هذا موجز القول حول مقولة العبقرية عند العقاد، توقفنا عندها بيانًا لأدبه الذي ينتسب إليه من ناحية المنهج كتاب (عبقرية الإمام)، وكون أن هذه المقولة تمثل الكلمة الأولى في عنوان الكتاب، فهي مفتاح الولوج إليه. بقيت الإشارة إلى الكلمة الثانية في العنوان، وهي كلمة (الإمام) التي اختارها العقاد قاصدًا، ومدركًا لحقلها الدلالي، وناظرًا إلى أنها أحق بالانتساب لعلي بن أبي طالب الذي كان متفردًا بها على سواه.
يرى العقاد في كتابه "فاطمة الزهراء والفاطميون" إن لقب الإمام قد اختص به علي، وإذا أطلق فلا ينصرف إلى أحد غيره بين جميع الأئمة الذين وسموا بهذه السمة، من سابقيه ولاحقيه، فالإمام أحق لقب به، وهو أحق الأئمة بلقب الإمام.
فقد كانت للإمام علي -في نظر العقاد- من خواص الإمامة ما ينفرد بها، ولا يجاريه فيها إمام غيره، معددًا بعض هذه الخواص، منها اتصاله بكل مذهب من مذاهب الفرق الإسلامية منذ وجدت في صدر الإسلام، كما اتصلت الحلقات بينه، وبين علماء الكلام والتوحيد، وكذا الحلقات بينه وبين علماء الفقه والشريعة، وعلماء الأدب والبلاغة، فهو أستاذ هؤلاء جميعًا بالسند الموصول.
ومن خواص الإمامة التي ينفرد بها علي بن أبي طالب كذلك -في نظر العقاد- انتساب العلوم الإسلامية إليه، وحسب قوله في كتاب "عبقرية محمد": "فقلَّ أن سمعنا بعلم من العلوم الإسلامية أو العلوم القديمة لم ينسب إليه... وقلَّ أن توجَّه الثناء بالعلم إلى أحد من الأوائل إلَّا كانت له مساهمة فيه... له الهداية الأولى في التوحيد الإسلامي والقضاء الإسلامي والفقه الإسلامي، وعلم النحو العربي، وفن الكتابة العربي، مما يجوز لنا أن نسميه أساسًا صالحًا لموسوعة المعارف الإسلامية في جميع العصور، أو يجوز لنا أن نسميه موسوعة المعارف الإسلامية كلها في الصدر الأول من الإسلام".
لهذه الخواص وغيرها، انفرد الإمام علي -في تصور العقاد- بلقب الإمام، وحازه دون سواه. من هنا جاء عنوان كتابه: (عبقرية الإمام):
أشار العقاد في كتابه إلى العديد من النظرات، والانطباعات الدالة في نظره، والكاشفة عن عبقرية الإمام، من هذه النظرات والانطباعات ما دلت عليه الولادة التي انفرد بها الإمام، وعُدّت من الكرامات التي ذكرت له وعرفت، وامتاز بها على غيره شرفًا وفضيلةً. أشار العقاد لهذا الأمر قائلًا: "ولد علي في داخل الكعبة، وكرم الله وجهه عن السجود لأصنامها، فكأنما كان ميلاده ثمّة إيذانًا بعهد جديد للكعبة وللعبادة فيها، وكاد علي أن يولد مسلمًا، بل لقد ولد مسلمًا على التحقيق إذا نحن نظرنا إلى ميلاد العقيدة والروح؛ لأنه فتح عينيه على الإسلام، ولم يعرف قط عبادة الأصنام... فبحق ما يقال: إن عليًّا كان المسلم الخالص على سجيته المثلى، وإن الدين الجديد لم يعرف قط أصدق إسلامًا منه، ولا أعمق نفاذًا فيه، كان المسلم الحق في عبادته وفي علمه وعمله، وفي قلبه وعقله، حتى ليصح أن يقال: إنه طبع على الإسلام، فلم تزده المعرفة إلَّا ما يزيد التعليم على الطباع".
ومن هذه النظرات والانطباعات ما دلت عليه سيرة الإمام، إذ يرى العقاد أن في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ملتقى بهذه السيرة، لكونها ملتقى بالعاطفة وبالخيال وبالفكر وبالذوق الأدبي، وحسب قوله: "في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية، ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه؛ لأن هذه السيرة تخاطب الإنسان حيثما اتجه إليه الخطاب البليغ من سير الأبطال والعظماء، وتثير فيه أقوى ما يثيره التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقع العبرة والتأمل".
وعن ملتقى "السيرة بالعاطفة"، تحدث العقاد قائلًا: "في سيرة ابن أبي طالب ملتقى بالعاطفة المشبوبة، والإحساس المتطلع إلى الرحمة والإكبار، لأنه الشهيد أبو الشهداء، يجري تاريخه وتاريخ أبنائه في سلسلة طويلة من مصارع الجهاد والهزيمة، ويتراءون للمتتبع من بعيد واحدًا بعد واحد شيوخًا جلّلهم وقار الشيب، ثم جلّلهم السيف الذي لا يرحم، أو فتيانًا عولجوا وهم في نضرة العمر يحال بينهم وبين متاع الحياة، بل يحال بينهم أحيانًا وبين الزاد والماء، وهم على حياض المنية جياع ظماء، وأوشك الألم لمصرعهم أن يصبغ ظواهر الكون بصبغتهم وصبغة دمائهم، حتى قال شاعر فيلسوف كأبي العلاء لا يظن به التشيع، بل ظنت بإسلامه الظنون:
وعلى الأفق من دماء الشهيدين
عليّ ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجران
وفي أولياته شفقان
وهذه غاية من امتزاج العاطفة بتلك السيرة قلّما تبلغها في سير الشهداء غاية، وكثيرًا ما تتعطش إليها سرائر الأمم في قصص الفداء التي عمرت بها تواريخ الأديان".
وعن ملتقى السيرة بالخيال، تحدث العقاد قائلًا: "وفي سيرة ابن أبي طالب ملتقى بالخيال، حيث تحلق الشاعرية الإنسانية في الأجواء أو تغوص في الأغوار، فهو الشجاع الذي نزعت به الشاعرية الإنسانية منزع الحقيقة ومنزع التخيل، واشترك في تعظيمه شهود العيان وعشاق الأعاجيب... ألم يوشك من وصفوه ووصفوا وقعاته، وفتكاته أن يلحقوه بأبطال الأساطير، وهو أصدق الأبطال في أصدق مجال".
وعن ملتقى السيرة بالفكر، قال العقاد: "وتلتقي سيرته عليه رضوان الله، بالفكر كما تلتقي بالخيال والعاطفة؛ لأنه صاحب آراء في التصوف والشريعة والأخلاق سبقت جميع الآراء في الثقافة الإسلامية، ولأنه أحجي الخلفاء الراشدين أن يعد من أصحاب المذاهب الحكيمة بين حكماء العصور، ولأنه أوتي من الذكاء ما هو أشبه بذكاء الباحثين المنقبين منه بذكاء الساسة المتغلبين، فهو الذكاء الذي تحسه في الفكرة والخاطرة قبل أن تحسه في نتيجة العمل ومجرى الأمور".
وعن ملتقى السيرة بالذوق الأدبي، قال العقاد: "وللذوق الأدبي أو الذوق الفني، ملتقى بسيرته كملتقى الفكر والخيال والعاطفة؛ لأنه رضوان الله عليه، كان أديبًا بليغًا له نهج من الأدب والبلاغة يقتدي به المقتدون، وقسط من الذوق مطبوع يحمده المتذوقون، وإن تطاولت بينه وبينهم السنون، فهو الحكيم الأديب، والخطيب المبين، والمنشئ الذي يتصل إنشاؤه بالعربية ما اتصلت آيات الناثرين والناظمين".
ومن نظرات العقاد وانطباعاته ما تعلق بالصفات الشخصية التي ميزت الإمام وعرف بها، ومنها الشجاعة النادرة، وعنها قال العقاد: "فكانت شجاعته من الشجاعات النادرة التي يشرف بها من يصيب بها ومن يصاب، ويزيدها تشريفا أنها ازدانت بأجمل الصفات التي تزين شجاعة الشجعان الأقوياء، فلا يعرف الناس حلية للشجاعة أجمل من تلك الصفات التي طبع عليها علي بغير كلفة ولا مجاهدة رأي، وهي التورع عن البغي، والمروءة مع الخصم قويًّا أو ضعيفًا على السواء، وسلامة الصدر من الضغن على العد وبعد الفراغ من القتال".
ومن الصفات الأخرى التي امتاز بها الإمام وعرف، صفة الزهد، وعنها قال العقاد: "فلم يعرف أحد من الخلفاء أزهد منه في لذة دنيا أو سيب دولة، وكان وهو أمير للمؤمنين يأكل الشعير وتطحنه امرأته بيديها، وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير فيقول: لا أحب أن يدخل بطني ما لا أعلم، قال عمر بن عبد العزيز وهو من أسرة أمية التي تبغض عليًّا وتخلق له السيئات وتخفي ما توافر له من الحسنات: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب. وقال سفيان: إن عليًّا لم يبن آجرة على آجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، وقد أبى أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة إيثارًا للخصائص التي يسكنها الفقراء، وربما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء والطعام... وعلى هذا الزهد الشديد كان علي (رضي الله عنه) أبعد الناس من كزازة طبع، وضيق حظيرة وجفاء عشرة".
ومن هذه الصفات كذلك التي امتاز بها الإمام وعرف، صفة الفطنة النافذة، وعنها قال العقاد: "والحق الذي لا مراء فيه أنه كان على نصيب من الفطنة النافذة لا ينكره منصف، وأنه أشار على عمر وعثمان أحسن المشورة في مشكلات الحكم والقضاء، وأنه كان أشبه الخلفاء بالباحثين والمنقبين أصحاب الحكمة ومذاهب التفكير، وعنه أخذ الحكماء الذين شرعوا علم الكلام قبل أن يتطرق إليه علم فارس أو علم يونان، وكان يفهم أخلاق الناس فهم العالم المراقب لخفايا الصدور، ويشرحها في عظاته وخطبه شرح الأديب اللبيب".
كما امتاز الإمام بصفة النخوة، وعنها قال العقاد: "وقد كانت النخوة طبعًا في علي فطر عليها، وأدبًا من آداب الأسرة الهاشمية نشأ فيه، وعادة من عادات الفروسية العملية التي يتعودها كل فارس شجاع متغلب على الأقران، وإن لم يطبع عليها وينشأ في حجرها؛ لأن للغلبة في الشجاع أنفة تأبى عليه أن يسف إلى ما يخجله ويشينه، ولا تزال به حتى تعلمه النخوة تعلمًا، وتمنعه أن يعمل في السر ما يزري به في العلانية. وهكذا كان علي (رضي الله عنه) عنه في جميع أحواله وأعماله، بلغت به نخوة الفروسية غايتها المثلى، ولا سيما في معاملة الضعفاء من الرجال والنساء، فلم ينسَ الشرف قط ليغتنم الفرصة، ولم يساوره الريب قط في الشرف، والحق أنهما قائمان دائمان كأنهما مودعان في طبائع الأشياء، فإذا صنع ما وجب عليه فلينس من شاؤوا ما وجب عليهم، وإن أفادوا كثيرًا وباء هو بالخسار".
وبعد أن أشار العقاد إلى هذه الصفات التي عرف بها الإمام، وجد أنها تنتظم في نسق موصول، وحسب قوله: "هذه صفات تنتظم في نسق موصول، رجل شجاع لأنه قوي، وصادق لأنه شجاع، وزاهد مستقيم لأنه صادق، ومثار للخلاف لأن الصدق لا يدور بصاحبه مع الرضا والسخط والقبول والنفور، وأصدق الشهادات لهذا الرجل الصادق أن الناس قد أثبتوا له في حياته أجمل صفاته المثلى، فلم يختلفوا على شيء منها إلَّا الذي اصطدم بالمطامع وتفرقت حوله الشبهات، وما من رجل تتعسف المطامع أسباب الطعن فيه ثم تنفذ منه إلى صميم".
ومن نظرات العقاد وانطباعاته ما تعلق بحب النبي للإمام، وحسب قوله: "إن عليًّا كان من أحب الناس إلى النبي، إن لم يكن أحبهم إليه على الإطلاق... حب النبي لهذا الإنسان حقيقة لا حاجة بها إلى تأويل الرواة ولا إلى تفسير النصوص؛ لأنها حقيقة طبيعية، أو حقيقة بديهية قائمة من وراء كل خلاف، ومما لا خلاف فيه كذلك أنه (عليه السلام) كان لا يكتفي بحبه إياه، بل كان يسره ويرضيه أن يحببه إلى الناس، وكان يسوؤه ويغضبه أن يسمع من يكرهه ويجفوه".
ومن نظرات العقاد وانطباعاته ما تعلق بسياسات الإمام وإدارته، إذ يرى أن الإمام اتّبع "من اليوم الأول في خلافته أحسن السياسات التي كان له أن يتبعها، فلا نعرف سياسة أخرى أشار بها ناقدوه أو مؤرخوه ثم أقاموا الدليل على أنها خير من سياسته في صدق الرأي وأمان العاقبة، أوانها كانت كفيلة باجتناب المآزق التي ساقته الحوادث إليها، فمن اللحظة الأولى، أخذ في تجنيد قوى الخلافة الدينية التي لا قوة له بغيرها... فكل ما صنع فهو الحكمة كأحسن ما تُراض له الحكمة، وهو السداد كأقرب ما يتاح له السداد... وأن أحدًا لم يثبت قط أن العمل بالآراء الأخرى كان أجدى وأنجح في فض المشكلات من العمل برأي الإمام، وإن أحدًا لم يثبت قط أن خصوم الإمام كانوا يصرفون الأمور خيرًا من تصريفه، لو وضعوا في موضعه واصطلحت عليهم المتاعب التي اصطلحت عليه... فما استطاع أحد قط أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه، وبين صحبه أو بين أعدائه".

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى